مبارك وساط
قصدتُ في ذلك الصّباح عيادةَ طبيب سأسمّيه في قِصّتي هاته د. نون، وقد كنتُ أتردّد على عيادته منذ وقت ليس بالقصير. حين دخلت العيادة، رأيتُ المُمرّضة - التي أسمّيها ها هنا نجوى - خلف نَضَد الاستقبال، وهي تتحدّث إلى امرأة واقفة قُبالَتَها. أقفُ بدوري أمامها وأحيّيها، فتسألني إنْ كان لديّ موعد مع الطّبيب. أقول لها : "نعم، هل نسيتِ أنّي اتّصلتُ بك البارحة، وكان يوم أربعاء، فقلتِ لي : تعال يوم الخميس، واليوم هو الخميس...". تُقاطعُني: "لا، لا، أنا لم أقصد هذا الخميس، بل قصدت الخميس القادم". قلت: "ولكنّك بمجرّد ما قلت لي : يوم الخميس، قطعتِ المكالمة، وردتُ إعادة الاتّصال، ولكنّ هاتفك لم يَعد بُجيب... ". قالت : "المهمّ أنّني قصدت الخميس القادم". فكّرت : "لقد شحنوها ولا شكّ !". وقلت لها : إلى الخميس القادم، إذن.
وجاء الخميس المنتظَر وعدت. قالت نجوى، وأنا واقف أمامها : "هل جلبتَ معك مطبوع التّعاضُديّة؟". قلت: نعم، وأخرجته مِن محفظتي. كانت تَعُدّ نقوداً وتَرُصّ الأوراق النّقديّة في كَرتونة بيضاء ذا ت غطاء، طولها يقارب الثلاثين سنتمتراً وارتفاعها لا يزيد عن خمسة عشر سنتمترا. لم أَرها من قبل تجمع الأوراق النّقديّة في كرتونة. الأوراق النّقديّة تستلمها من أمثالي الذين يجيؤون لإجراء الفحوص. الواحد منّا يؤدّي بعد أن تتمّ عمليّات الفحص، قبل أن يُغادر العيادة. المعهود أنّ نجوى تضع الأوراق النّقديّة في جارور. هذه الكرتونة البيضاء تستثير استغرابي قليلاً. لماذا كرتونة من النّوع الذي تُباع فيه الحلويات، ما دام هنالك جارور يُغْلَق بمفتاح؟ لكنْ ما دخلي أنا في أمر كهذا؟ أترك نَضد الاستقبال وأمضي صوب قاعة انتظار. ليست بالكبيرة ولا بالصّغيرة.
في القاعة، أجلس في مكان بعيد عن الباب. هنالك عِدّة أشخاص ينتظرون. اثنان، قبالتي، يتحادثان خافضين صوتيهما. يَدخل رجلٌ مُتقدّم في السّنّ، تُسند ظهرَه امرأة في مُقتبل العُمر. يُمناه راعشة وبِها يُمسك عكّازه. يجلس هو ومرافقته.
ثمّ يَدخل شخص في نحو الثّلاثين، دافِعاً قفصه الصّدري إلى الأمام بصورة بادية التّصنّع. يبدو كأنّه يَرغب في إبراز عضلات صدره. مِشيته أيضاً تستثير استغرابي. إنّه ينقل قدمه رافعاً إيّاها أكثر من اللازم ومُبعِداً إيّاها عن القدم الأخرى، كأنّه يُمثّل أو كأنّي أُشاهد حركاته بالعرض البطيء. يلتفت يميناً ويُجيل بَصره على وجوه الجالسين. تحت إبطه محفظة سوداء بلاستيكية. يأتي ويجلس إلى يميني. تجيء لحظة أشعر فيها بأنّه يُحرّك يده صوب جيبي. أسترق النّظر فأرى بالفِعل يده تقترب من جيبي، ثمّ ترتفع إلى فوق وتعود نحو صاحبها راسمةً نصف دائرة. يده تتحرّك ببطء مُفتعَل، تمثيليّ. ألتفت نحوه قليلاً وأُسَدّد إليه نظرة جانبيّة غير وُدّيّة. بعدها أُدخل يدي إلى جيب جاكيتتي القريب من جاري المُريب وأُخرج منه هاتفي بتثاقل مقصود. أُمسك بالهاتف وأنقله ببطء إلى يدي اليُسرى، ومنها إلى جيبي الأيسر. ألتفت إلى جاري من جديد ولا أبتسم. يتصنّع التّجهّم ويُوَرِّم جانبَيْ وجهه. إنّه يُمثّل. يُسْبِغ على نفسه أهمّيةً وهيبة مصطنعتين. اندفاع صدره ومشيته الغريبة لدى دخوله هما، في خياله، علامتان على قوّته الجسديّة. واضح أنّه مشحون يشتغل لحساب مشكون ومن معه. فجأة يقف ويتوجّه إلى الباب. ومِن الباب يتحدّث بِصوت مُرتفع إلى المُمرّضة: "آخْتي نَجوى، آخْتي نَجوى...". ما دام يحسب نفسه شَخصيّة استثنائيّة، فَلِمَ سيتكلّم بِصوت خافت؟ إثر ذلك يمضي إلى نَضد الاستقبال. ثمّ ها هو يعود بنفس المشية المُضحكة. في هذه المرّة يُبعد ذراعيه عن جانبي صدره. يُريد أن يبدو عظيم المنكبين. يجلس لِلحظة. يَنظر إليّ بِزاوية عينه. بنصف عين، كما يُقال. ينظر شَزْراً. إنّه مُضحك. هل يقصدُ أن يُخيفني؟ إنّه يَقوم بالدّور الذي رُسِم له. يمضي من جديد إلى النّضد وعلى الفور يَعود. لكنّه يبقى هذه المرّة مُتّكئاً على جانب من إطار الباب. يقف واضعاً ساقاً على ساق. محفظته في يسراه. وفي اليُمنى هاتفه المحمول. يُدير رأسه بتباطؤ تمثيليّ حتّى تستقرّ عيناه عليّ. يُحاول أن يبدو ذا سلطة ومهابة. أُقرّر أن أسخر منه بطريقتي. أنظر إليه بلا مواربة وأمطّ شفتيّ إلى أقصى حدّ ثمّ أعيدهما إلى حالتهما العاديّة. أفعل هذا مرّات متتاليات وبِسُرعة كبيرة. يُدرك قصدي. يُسْبِل عينيه ويُجيلهما في رقعة الأرض التي مِن حوله. إثر ذلك، يُعَدِّل وقفته. تُصبح عاديّة ولا ادّعاء فيها. يلتفت إلى يمينه، ثمّ يمضي نحو النّضد، ولا يعود بعد ذلك.
تأتي لحظة يُنادَى عليّ فيها، فأنهض. أمرّ من أمام النّضد. سأُسمّي المُمرّضة التي نادتني عزيزة. إنّها واقفة في مدخل رواق إلى يساري. في طريقي لاحظتُ أنّ نجوى قد تركتْ مكانها خلف النّضد فارغاً، وغطّت الكرتونة البيضاء بملفّ بنفسجيّ كبير. وأنا أسير خلف عزيزة، بدتْ لي نجوى خارجة مِن مكتب الطّبيب. تُوَجّه إليّ هذه الأخيرة نظرة مُتفرِّسة ثُمّ تُشيح بوجهها. ماذا هنالك؟ تُدخلني عزيزة إلى غرفة بها سريران ضيّقان وكرسيّان.
أجلس على طرف أحد السّريرين. أقول لها: "لكنْ، لِمَ أنا هنا؟ ينبغي أن أكون في حجرة التّخطيط الكهربائيّ". تَرُدّ عليّ: "لا عليك، بعد قليل ستنتقل إليها". أقول: "أعتقد أنّ الغرفة التي أنا فيها الآن مُخصّصَة لِمَن تُباغته نَوبة مُفاجِئة، لكنّي أنا في حالة عادية". تقول لي هي: "اِنتظر قليلاً، فهنالك امرأة في غرفة التّخطيط الكهربائيّ، وبِمجرّد ما تُغادرها هي، ستدخل إليها أنت". لا يبدو لي كلامُها مُقنعاً. أفكّر في أن أسألها لِمَ لَمْ أبقَ في مكاني الأوّل حتّى أجيءَ منه مباشرة لغرفة التّخطيط الكهربائيّ، لكنّي لا أقول شيئاً. تَخرج عزيزة من الغرفة ذات السّريرين. أَبْقى جالِساً، منتظراً ومستغرباً. يَدٌ تُحرّك أَكرة الباب، وها هي تدفعه فينفتح. إنّها ليستْ عزيزة، بلْ نجوى. بِيُسراها تُمسك الكرتونة البيضاء وتشُدّها إلى صدرها. لا تقول شيئاً. تنظر إليّ كأنّها تراني للمرّة الأولى. أتفرّس فيها ولا أفهم. تجلس على كرسيّ وتُقرّب كرسيّاً آخر منها. على الكرسيّ الذي أمامها، تَضع الكرتونة البيضاء، وتُخْرج منها حُزَم أوراق نَقدية، شُدّتْ كلّ منها برباط مطّاطيّ. تفكّ رباط الحزمة الأولى، وتبدأ في عدّ الأوراق النقديّة التي نزعت عنها الرّباط. تَعدّ، ومن حين لآخر، تسترق إليّ نظرة وتمطّ جانب فمها قليلاً، ثمّ تعود إلى العدّ. تنتهي من الحزمة الأولى فتنظر إليّ للحظة كأنّها تستغرب من رؤيتي أمامها. وتفكّ رباط الحزمة الثّانية ثمّ تبدأ في العَدّ، ولا تنسى أن تسترق إليّ النّظر بين الفينة والأخرى. وها أنا الآن أُحِسّ كأنّها تتّهمني بِشيء مّا. فهي كانت قد تركتْ كرتونة النّقود ومضتْ إلى مكتب الطّبيب، ومررْتُ أنا مِن أمام النّضد في طريقي إلى هذه الغرفة. ما معنى هذه النّظرات الاتّهاميّة؟ أفهم أنّها كانت تضع الوراق النّقديّة في تلك الكرتونة وأنّ عزيزتي نادتني لتأتي بي إلى هذه الغرفة كانا بمثابة مُقدّمة للمسرحيّة التي اقوم بها الآن. فكونها تسترق إليّ النّظر وهي تعدّ الأوراق النّقديّة معناه أنّها تتشكّك في أنّي قد أكون سطوتُ لها على بعض ما كان في الكرتونة؟ أإنّها تقوم بكوميديا مقيتة لتستفزّني. أشعر أنّها حقيرة حقّاً. وها هي تنتهي من العدّ وتُعيد حُزَم النقود إلى الكرتونة وتنهض. تلتفت نحوي وتُوَجّه إليّ نظرةً كأنّها تلومني على شيء ما. كانّها تقول: "أتعبتَني، فبسبب شكّي فيك، اضطُرِرتُ إلى عدّ كلّ هذه الأوراق النّقديّة". أو كأنّها تقصد أن تقول ما هو أفدح : "إنْ كنتَ لَمْ تَأْخذ شيئاً، فقد كان ممكناً أن تفعل ذلك". أُفكّر أنّ الذي ألّف لها هذا السّيناريو شخص وَسِخ العقل، وأَنّها أدّت دورها بدناءة حقيقيّة.
إِثر كُلّ هذا، تُغادر هي الغُرفة وأبقى أنا مُتوتّر الأعصاب. أجد سلوكها معي صادماً. في السّنة السّابقة جِئتُ إلى هذه العيادة عدّة مرّات، ولم يسبق أن ضايقني شخص مثل الذي كان قد جلس بجانبي في غرفة الانتظار. ونجوى نفسها كانت فيما مضى تتعامل معي بلياقة. فما معنى كلّ هذا؟ الجواب : لقد شحنها وبرمجها موشكان (ومن معه).
أبقى واجماً في الغرفة ذات السّريرين. ثمّ تأتي عزيزة. ابتسامتُها عريضة. تقول: "هلمّ لإجراء التّخطيط". أنهضُ وأتبعُها إلى غرفة أعرفها مُسبّقاً. أتمدّد على ظهري فوق أريكة زرقاء، طويلة وبلا ظهر. عزيزة أبعد ما تكون عن الجَمال، وهذا هو الواقع. لكنّها كانت حتّى الآن مستقيمة وودودة. اليوم، ها هي تُصبح عزيزة جديدة! تُوَجِّه إليّ ابتسامات عريضة، تتثنّى وهي تخطو من مكان إلى مكان، بل وتتغنّج. لأَوّل مرّة، تحكي لي عن نفسِها. تقول إنّها كانتْ مُتزوّجة وإنّ زوجها مات ولها الآن طفل وطفلة، وهي تبحث عن ابن حلال يكون سنداً لها. أشعر أنّها تستهدفني بطريقة ما، فأضحك. في لحظة ما، تُلامس قضيبي بباطن ذراعها وأنا مُمَدَّد على الأريكة. أتضايق مِن ذلك. تقول لي إنّه ممكن لشخص بتقاضى راتبا جيّداً أن تكون له زوجتان. ينتهي تسجيل تخطيط كهربيّة القلب. تَفكّ عزيزة الخيوط من حول رُسغيّ وساقيّ، وتنزع اللاصقات الكهربائيّة من جانبَيْ صدري.
ثمّ يجيء د. نون ويطرح عليّ أسئلته المعتادة: هل تنهج أثناء المشي؟ هل تشعر بحُرقة في القلب أحيانا؟ بعد ذلك، يتذكّر سؤاله المعهود: هل الشِّعر يؤكِل خبزاً؟ لكنّ الجديد هذه المرّة هو قوله: "أحوالك جيّدة إذن، لا يبقى لنا سِوى أن نُزوّجك. ها هي عزيزة، بنت ناس وتتحرّق شوقاً إلى تكوين أسرة...". يقولها ويبتسم. لا أبتسم أنا ولا أُجيبه. ينهض وأتبعه إلى مكتبه. يُحرّر لي الوصفة المعهودة، ويضع توقيعه وطابعه عليها، وعلى مطبوع التّعاضديّة أيضاً. يُسلّمني المطبوع الباهت الخضرة وبداخله وصفة الأدوية.
أَمضي إلى نَضَد الاستقبال وأُسَلِّم نجوى ثلاثمئة درهم. نجوى لا تخفي توتّرها ونا لا أخفي امتعاضي منها. أراجع الوصفة الطبية فأجد أنّ الطبيب نون قد كتب، في تاريخ الوصفة، 0223 عِوض 2023.... أطلب من عزيزة أن تعيدها إليه. تمضي بها إليه فيصحّح التّاريخ. أغادر العيادة وقد قرّرتُ أن لا أعود إليها مُستَقبلاً.