مبارك وساط
كنتُ أقضي أيامًا في الدّار البيضاء ذاتَ صيف. وفي صبيحة جميلة، توجّهت صوب حانة "س"، التي كنتُ قد انقطعت عن ارتيادها قبل ذلك بِنحو عشر سنوات. لقد كانت حانة صغيرة، وأغلب روّادها كانوا من زبائنها الدّائمين. كان لي فيها معارف، ولا شك أن شيئًا كالحنين هو الذي كان قد اجتذبني إليها يومها. بعد دخوا إليها وتبادل بضع تحيّات، اتخذت لي مكانًا خلف الطاولة الأبعد عن الباب.
سرعان ما انتبهتُ إلى الجالس في زاوية بدأت تنقشع عتمتها بالنسبة لعينيّ: إنه "سي سليمان" نفسه، الرَجل الذي لا شكّ أنه قد تجاوز الثّمانين بِسنين، والذي كنت أراه على مقعده الطّويل ذاك، بِشكل منتظم، قبل عشرة أعوام ويزيد ! كان يستند بكتفه اليسرى إلى الحائط، واضعاً كفّاً على الكونتوار، وإلى جانبه امرأتان تؤنسانه، فيما يتكفّل لهما هو بالشراب. لقد كان، في تلك الصّبيحة أيضاً، يعتمر كاسكيتاً أزرق!
فيا للحكيم سليمان ذاك ! إنّه يتحدّى الزّمان، غيرَ مُفَرّط في نبيذه، فيما تحافظُ صحَّتُه على نفسها بشكل تلقائيّ !
*
ها أنا أرى الشّيخ الذي تجاوز الثّمانين - وهو يُعاقر خمرته، تُؤنسه امرأتان بشوشتان – فأتذكّر، بِشكل تلقائيّ، الشّاعر الفرزدق. فمعلوم أن هذا الشاعر كان محبّاً للخمرة وللنّساء، إلا أنه ارتأى أن يعلن "توبته"، بعد أن بلغ التسعين (أو السّبعين، فثمّة روايتان مختلفتان في هذا الصَّدد)، وفي ذلك قال: "أطعتُك يا إبليسُ تسعين حِجّةً/ فلمّا انقضى عُمري وتمّ تمامي/ رجعتُ إلى ربّي وأيقنتُ أنّني/ ملاقٍ لأيّام المنون حِمامي" (أو : "أطعتُك يا إبليسُ سبعين حِجّةً"). فلا شك أن الفرزدق كان يعتبر معاقرة الخمرة من "مسرّات الحياة"، فيُفْرِطُ فيها أحياناً، وممّا يُروى عنه أنّه مَرّ وهو سكران بجماعة من الكلاب، فسلّم عليها، حاسباً إياها أناساً، فلمّا لمْ يسمع جواباً أنشأ يقول: "فَما ردَّ السّلامَ شُيوخُ قومٍ/ مررتُ بهمْ على سِكك البريد/ ولا سِيمَا الذي كانت عليه/ قَطيفةُ أرجوانٍ في القُعود". ويبدو أنّ مخاوفه ممّا قد يَحيق به بعد الوفاة – فقد كان صاحبَ اعتقادٍ دينيّ – هي التي جَعلتْه يزهد في ملذّات الدّنيا ! وما أشد ما تتجلّى تلك المخاوف في قوله: "أخافُ وراء القبر إنْ لم يُعافِني/ أشدَّ من القبر التهاباً وأضْيقَا/ إذا قادني يومَ القيامة قائدٌ/ عنيفٌ، وسوَّاقٌ يَسُوق الفرزدقَا".
*
حين نرى أنّ الفرزدق اعتبر بلوغه التسعين (أو السّبعين) إيذاناً بنهاية وشيكة لحياته، ونتذكّر أنّ ابن أبي سلمى كان قد سئم "تكاليف الحياة"، بعد أن قضى على وجه البسيطة ثمانين حَوْلًا، فلا شك أننا سنندهش حين نقرأ عن الآماد الطّوال التي يكون قد عاشها - بحسب ما ترويه لنا بعض كتب التّراث - عددُ من شعرائنا القدامى. في هذا السّياق، نقرأ، على سبيل المثال، في كتاب الأغاني: "ولَبيد أحد شعراء الجاهِليّة المعدودين فيها والمُخضرمين... يُقال إنه عمّر مائةً وخمسًا وأربعين سنة". ويُقال إنّ العرب لم تكن تعتبر شخصاً مُسِنّاً من المعمّرين إلا إذا تجاوز المئة وعشرين عاماً.
لأبي حازم السجستاني (ت. 862 م) مؤلّف بعنوان: "كتاب المعمّرين من العَرب وطُرَف من أخبارهم"، أورد فيه أسماءً كثيرة لشعراء عاشوا طويلاً جدّاً (حسب الكتاب المذكور طبعاً). نذكر واحِداً منْ هؤلاء الأخيرين، هو رُبَيْع بن ضَبُع، وقد قال عنه السّجستاني: "عاش أربعين وثلاثمائة سنة، وقال لمّا بَلغ مائتين وأربعين سنة: "أَصبحَ منّي الشّبابُ قد حَسَرا/ إنْ يَنْأَ عنّي فقدْ ثَوى عُصُرا". ومِن جميل شِعر رُبَيع بن ضَبُع عن الكِبَر: "وإنّ كَنائني لَنِساءُ صِدْقٍ/ وما آلَى بَنِيَّ ولا أساؤوا/ إذا كان الشّتاءُ فأَدْفِئُوني/ فإنّ الشّيْخَ يَهْدِمُهُ الشّتاءُ/ وأمّا حين يذهبُ كلُّ قُرٍّ/ فَسِرْبالٌ خفيفٌ أو رِداءُ/ إذا عاشَ الفتى مائتين عامًا/ فقد ذَهبَ اللذاذةُ والفَتاءُ".
*
خلال سِنّي طفولتي، كان يزورنا العديد من أفراد العائلة، وبالطّبع، كان من بيْنِهِم مسنون من النساء والرجال (وإنْ لم يتجاوز أحد منهم التّسعين، في الواقع). من بين هؤلاء ، فإنّ الشخص الذي كنت أتهيّبه أكثر - وتبدو لي غضون وجهه كأنما تنطوي على أسرار وذكريات عن أهوال وتجارب مثيرة ورهيبة - هو جدي لأُمّي.
*
كان جدّي ذاك رجلاً بشوشًا، وكانت لقصصه آثار عجيبة على سامعيه، فقد كانت واقعيّة، حدثت في زمن طفولته أو شبابه الذي كان يبدو لنا موغلاً في القِدَم، وكانت قصصه تستثير فينا الانبهار والتّحمّس، وبعضَ الخوف أيضًا... لقد كانت تدور حول حروب بين ملك مغربي وأخيه، وحول لصوص مسلّحين كانوا يدهمون قرية جدّي تحت جُنح الظّلام - فيسارع الجدّ أو والده أو أخوه إلى التقاط بندقيّة واعتلاء كومة أحجار حتّى يتمكّن من إطلاق الرّصاص من أعلى السُّور، وكذلك كان يفعل العديد من سكّان قريته، كلٌّ من داخل بيته - كما كان يحكي لنا عن رجال ونساء وجدوا أنفسهم ضحايا للجذام، فصاروا يتنقلون من مكان إلى آخر، حتى إذا حلّوا بمشارف قرية ما حمل إليهم ساكنوها بعض الزّاد.
وماذا عمّن رفضوا عَيش مرحلة الشّيخوخة؟ يُمكن أن يظهر هذا الرّفض من خلال نشاط جسمانيّ ما، أو نشاطٍ فكري لا يعترف بأنّ الشيخوخة مرحلة أُفولٍ لِلقُدرات الذهنيّة (يحضرني الآن اسم الكاتب الأميركي الفرنكوفوني جوليان غرين ـ Julien Green ـ، الذي كان قد تجاوز الثمانين حين قال إنّه سيشرع في تعلّم العربية والهندية)، أو من خلال فعل تراجيدي عنيف، مثل ذاك الذي أقدم عليه الكاتب الفرنسي رومان غاري ـ Romain Gary ـ ! فهذا الأخير، المشتهِر خاصّة بحصوله مرّتين على جائزة غونكور – مرّة باسمه الفعليّ وأخرى باسم مستعار (إميل آجار) – كان قد قال، في حوار صحافي معه: "الشيخوخة؟ تلك كارثة، لكنّها لنْ تُصيبني". وبالفعل، فقدْ أنهى حياته بالانتحار، سنة 1980، وهو في السّادسة والسّتّين !
*
لا شك أنّ سليمان "الحكيم"، زبون تلك الحانة الصّامد قد انضاف، في مخيّلتي، إلى شيوخ وعجائز يعيشون في الكتب وفي أذهاننا، مثل "سِبِيلّا كوم" -La Sibylle de Cumes - التي عاشت، حسب أساطير الإغريق، ألف عام! أو الملك لير، بطل شكسبير، أو شخصيات كثيرة في أعمال روائيّين عديدين.
وأعتقد أنّي لو عدتُ إلى تلك الحانة، فسيكون عاديّاً أن أرى سليمان المُسِنّ هناك، على كرسيّه الطويل، يرفع كأسه إلى شفتيه ولسان حاله يقول، مع جاك بريل : "الشّيوخ لا يموتون/ إنّهم ينامون في يومٍ ما/ وينامون طويلاً جدّاً".