وكانت قفزة العمّة أسرع (قِصّة قَصيرة)


 لم يَكنْ عُمَر، وهو الآن في العاشرة، قد وجدَ نفسه في تواجُهٍ مباشر وعلى مسافةٍ قريبة جِدًّا مع شخصٍ مُخيف، يَنعته الآخرون ب"المجنون"، قبل صَبيحة يومِ الخميس ذاك، وفي قرية الدَّخَّانَة بالضّبطلقد مرّ الآن على هذا أكثرُ من شهركما أنّ عائلةَ عُمَر قد عادتْ من زيارتها الصّيفيّة لِلدَّخَّانة القرية التي وُلِدَ فيها عبد المولى، والدُ عُمر بعد أن قضتْ هنالك ثمانيةً وعشرين يوماً، وها هي الآن في بلدة لَمْزِينْدَة – التي تَبعد عن الدّخّانة بحوالي ثلاثين كيلومتراًإذ إنّ الإجازة السّنويّة لوالد عُمَر قد انتهتْ، وعليه أن يعود إلى شُغله في أحشاء الأرض، فهو يَشْتغل في منجمٍ للفوسفاط...

 في لَمْزِيندة، ينفتح بيت عائلة عُمَر على خلاءٍ فسيح يُؤَدِّي إلى تلّة صغيرة تنحدر بِدَوْرها في اتّجاه مقبرة البلدةوإذْ يخرجُ المرء من هذا البيت، فهو يجد على يمينه مساحاتٍ معشوشبة شاسعة تتخلّلها بقعٌ جرداء وصخور، ويرى على يساره طريقاً تمرّ على بيوتٍ، ثمّ على سقّاية عموميّة، أُثْبِتَتْ في جدارها ثلاثةُ صنابير، وَطُلِيَ الجدارُ بالفسيفساء... وهذه الطّريق هي التي سيسلكها عُمَر مُجَدَّداً إلى المدرسة، حين تنتهي عُطلةُ الصَّيف...

 في صبيحة يوم الخميس ذاك، وقع الحَدثُ غيرُ المُرْتَقَب، فقد وجد عُمَر نفسه وجهاً لوجه مع لَكْبيرْ ابن لالّة صفيَّة، وذلك في مدخل غرفةٍ بِبَيت هذه الأخيرة بالدّخّانةولالّة صفيّة هي من بنات عمّ والد عُمَر... وقد تفاجأ عُمَر إذْ ظهر أمامَه ذلك الشّخص ذو العينين البرّاقتين، والشَّعرِ المفتول في ضفائر كثّة وقصيرة، والقميص الأزرق المُثَقَّب الذي انتشرتْ عليه بُقَعٌ من الأصباغ... كانت في نظرات لَكْبير – ولمْ يكنْ عُمَر يعرفُ اسْمَهُ لحظتهاتهديدٌ بالبطش استشعره الطّفل، فتملّكَه خوْفٌ شديد في البدء، ولكنْ، بعد دقيقة أو أقلّ، تبخّر ذلك الخوف، أو لربّما ثَوى في طبقةٍ أعمقَ بِصَدْر عُمَر، فقد تبدّل شعوره إلى إحساس بالحياد إزاء الموقف الذي كان فيه، كأنّما لم يكنْ يعيشُه وإنّما يتفرّج عليه في شريطٍ سينمائيّهكذا كان المشهد، تحديداًعُمَر يقف بمدخل إحدى غُرَف منزلِ لالّة صفيّة الكبير، عيناه مُسَمّرتان على رسْم غريب مُعلَّقٍ إلى جدارٍ في الغرفة، يبدو فيه وجهٌ طَغتْ عليه الألوان الصّارخة، وقدْ رُسِمَتْ منه العينان تحتَ الأنف... وإذْ كانَ عُمَر على وشك أنْ يدلف إلى تلك الغُرْفة، التي طالَمَا دَخلها في أصياف ماضِية – وكانتْ وقتَها فارغةً من الأثاث وشِبْهَ منسِيّةنَطَّ لَكْبيرْ من إحدى زواياها وانتصبَ قريباً جِدّاً من عُمَر، لاوِياً شفتيه في تكشيرةٍ مُلْتَبِسٍ أَمْرُها، إذْ لَمْ يبدُ واضِحًا إنْ كانتْ مُجَرّدَ حركةِ هُزْءٍ من هذا الطّفل الذي يقتحم غرفته، أمْ أنّ فيها تهديدًا بضربةٍ على أُمّ رأسِ غريمه الصّغير ذاك!

 وفي النّهاية، كَالَ لَكْبيرْ لِعُمَر دفعةً في الصّدر، خفيفة وضعيفة!.. وسَيَسمع عُمَر من أبيه أنّ لكبير عاش طويلاً في فرنسا، و«أنّهم أعادوه» من تلك البلادِ مجنوناً ومطروداً... ولم يكن عُمَر قد عَلِم بوجود لَكْبير قبل صبيحة ذلك الخميس...

 كان صديقُ عُمَر الأقرب إلى نفسِه بِالدّخّانة هو حميد، ابنُ لَالّا الضّاوية، عمّةِ عُمَروكان عُمَر يجدُ عَمّتَه هاته شرسةً قاسيةَ القلب، بل وشِرّيرة، أحياناً.... وكان عُمَر وحميد، المتقاربان في السّنّ، يَقضيان وقتاً في ركوب الحمير، غيرَ آبِهَيْن بغضب أصحابها، ويُحِبّان، أيضاً، أنْ يُنْصِتا إلى ما كان يرويه سالم من مغامرات يَنْسُبُها إلى نفسِهوسالم هذا قد تجاوز السّتّين، إلّا أنّه قويّ البنيةوقد كان أحدُ حاجبيه أبيضَ تماماً، والآخرُ خالطتْ بياضَه بضعُ شعرات سوداءوفي المساء السّابق على عودة أُسرة عُمَر من الدَّخَّانة إلى لَمْزيندة، انضمّ عُمَر وحميد إلى حلقة الأشخاص الذين كانوا يُنصِتون للرّجل السّتّيني وهو يروي لهمْ إحدى بطولاتهقال سالم إنّه كان عائدا ليْلاً، في إحدى المَرّات، إلى الدَّخَّانة بعد زيارة لُأْختِه في قرية العوامر، وكانت أشِعّةَ ضوء القمر تخترق طبقات الظّلام، ولم يكن هنالك ولا شخصٌ واحد خارجَ بيته... وبغتةً، اقتربَ منهُ جَدْيٌ صغير... وبقفزةٍ اعتلَى كتفيه... ثمّ إنّ الجَدْي – حسبما أضاف سالِم – بداَ ينتفخ ويتمطّط، وفي مفاجأة جديدة، بدأ في الحديثِ إلى الرّجل السّتّينيّ، قائلا: «هَلْ تَجدُني ثقيلا بعض الشّيء؟ »، وبعدها صدرتْ عنه قهقهةٌ كهزيم الرّعد... « إثر ذلك – يسترسِلُ سالِم قَفز عَنْ كتفيَّ وقد أضحتْ عيناه حمراوين كجمرتين، وبرزتْ له أنيابٌ طويلة كالمُدَى، ثمّ ركلني بقوّة شديدة فوجدتُ نفسي مُلْقىً على ظَهْري قُرْبَ داري، تحت ضوء القمر السّاطع، والجَدْيُ اللعين جاثمٌ بجانبي... لحظتَهَا، تذكّرْتُ السّكّين الذي في شكارتي وبسرعة مددتُ يدي وأخرجْتُه، ثمّ طعنتُه به في بطنه، فانفتحَ مكانُ الطّعنة، لكن لم يَخْرُجْ منه دم أحمر... وقد سقطَ أرضاً... وكان دمُهُ بين الأصفر والأخضر، كما تبيّن لي في ضوء القمر...»

 بعد عودة عائلة عُمَر إلى لمزيندة بنحو عشرين يوماً، اشتدّ المرض على رحمة، أمّ عُمَر، وتقرّر أن "ترقدبالمستشفى الكبير باليوسفيّة – المدينة الصّغيرة القريبة من لَمزيندة لفترةٍ قد تطولولذا، فقد دُعِيَتْ عمّةُ عُمَر، للّا الضّاوية، من قِبَل الأب لِتُشْرِفَ على الحياة اليوميّة للأُسْرَة... وجاءت العمّة ومعها حميد ابْنُها... وكانتْ لِعُمَر بضعةُ كُتب، وعددٌ واحد من مجلّة "المزمار"، وهو عبارة عن ورقة طويلة وعريضة، مطويّة على أربع وبها رسوم وحكايات وصُوَر... وفي مساء يوم وصول العمّة، قالت إنّ مصباح الغرفة الكهربائيّ يَصُبُّ على رأْسِها سخونتَه الشّديدة ويكادُ يُذيبُ مُخّها، فهي لم تتعوّد إلّا على ضوء الشّموع الوديع... وفي الليلة المُوالية، اكتشَفَ عُمَر أنّ العمّة الضّاويّة قد قطّعت عدد "المزمارذاك، وصعدتْ فوق مائدة، ولفَّتْهُ حول المصباح للتّخفيف مِنْ شِدّة ضَوْئه... تفاجأ عُمَر وصرخَ في وجهها، فنهرتْه... وفي تلك الليلة، رأى في النّوم كابوسين...

بعد ثلاثة أيّام على ذلك الحادث، وعلى غير انتظار، حلّ بِلَمْزيندة رجلٌ... مَجنونوالغريب أنّه كان يُدْعى، أيضاً، سالم، فهكذا كان يُسَمّيه مَن يتحدّثون عنه... وأوصت العمّة الضّاويَة كُلّاً من عُمر وحميد بعدم الاقتراب منه، وأضافتْ بأنّه قد أمسك طفلة من قدميها ورفعها إلى أعلى وأهوى بها على جدار السّقّاية...

 ثُمّ إنّ العمّة الضّاوية طلبتْ من ابنها حميد أنْ يَعود إلى الدَّخَّانة بلا إبطاء، على أن تَلحق به هي بعد أيام عشرة، كانتْ هي ما تبقّى للأمّ رحمة في المستشفىوكان عُمَر قد قال لِحميد : « لِمَ لا تنتقل إلى مدرسة لَمزيندة وتُقيمُ معنا؟ »... وبقدر ما سَرَّهُ اقتراحُ عُمَر، فقد أثار حنقَه كلامُ أمّه عن ضرورة عودته إلى الدَّخَّانة لوحده... وفي ذلك الصّباح نفسه، رأى الطّفلان سالم المجنون، الذي مرّ قريباً منهما، هادِئاً، وديعاً، وعلى شفتيه ابتسامة مُوَجَّهة نحو الغيوم... وخطّط حميد وعُمَر لأمرٍ مثير، وهما يستشعران زُهُوّاً برصيدهما من الدّهاء!..

 هكذا إذن، تمدَّدَ حميد على ظهره، وسط شريط معشب بعيد عن بيت عائلة عُمَر بنحو مئتي متر... فيما مضى هذا الأخير مُسْرِعاً صوب البيتومن وراء الباب، نادى العمّةَ الضّاويَة بصوتٍ جعله جهْوريّاً بأقصى ما استطاع، وأضْفَى عليه ارتعاشاً وتَهَدُّجاً، مُصطَنَعَيْن ولا شكّ، لكنّهما انْطَليا على العمّة: « يا عمّتيسالم المجنون يقول إنّ دَم حميد ليس أحمر... ولكنّه بين الأصفر والأخضر! ». «هَا وِيلِي، قالت العمّة صارخةً، «وكيف ذلك؟». ردّ عُمَر : «يبدو أنّه جَرَحه... أعني أنّه طعنه بسكّين... وحميد لا يزال مُمَدّداً هنالك، قريباً من البيت!».

 تخرج العمّة الضّاوية مرتاعةً، منفوشةَ الشَّعر، فقد تركتْ رأْسَها عارياً، على غير عادتهاويُشير عُمَر بِسَبّابة يُمناه إلى حيثُ يتمدّد حميد، ثمّ يُهرول مبتعداًوإذ تقترب المرأة المرتعبة كثيراً من ابنها المنطرح أرْضاً، يقفز هذا الأخير واقفاً، معتزماً الهروب... لكنّ قفزة أمِّه كانتْ أسرعَ وأقوى، ولذا فقد تمكّنتْ من الإمساك بخناقه، وكالتْ له عِدّة صفعات... وكان عُمَر يلتفت ليُتابع المشهد، في توجُّسٍ أكيد، وهو يحثُّ الخُطى صَوْبَ المقبرة.