طبعة أُولى : دار توبقال، 1990 - طبعة ثانية، منشورات عكاظ، 2001- رابط تحميلها ـ pdf ـ: من هنا
لِقراءتها مُباشَرةً : على دَرج المياه...
ـــــــــــــــ
من المجموعة :
خلف نافذتي...
خَلف نافذتي المرصَّعة بالبروق
تقصفُ أجنحةُ الفجر
نُجيماتٍ وليدة
في الحُقول المُنهَكة
حيثُ تتناجى بُقَعُ دَمٍ وأزْهار
يرسم بحَّارٌ مسلوخ
أشرعةً ومجاذيفَ
على صفحة جِلْده المتهدِّل
ويُحَدِّق عرَّاف بعينيه الزّجاجيتين
في غُضون إلهٍ مُحنَّط
بينما يتدلَّى جنديٌّ
باسماًمن المشنقة
أولئك أَسْلافي
وما عادوا يتعرَّفون عليَّ
لقد قَصُرَتْ قامتي حقّاً
بسببِ الصّباحات الشّاحبة
التي تضغط على كاهلِي
عند اليقظة
لستُ متوجِّساً من هذا
فما دام قلبُ المرآة ينبض
ثمَّة أملٌ كبير
في انبعاث الشِّفاه من رمادها
إذَّاكَ ستينَع القبل
وتستمتع عظام الموتى
بغناء النَّمل...
أتنصَّت لأشْجان موجةٍ يتيمة
بعد قليل أخرج للتّجوال
سيكون لركبتيَّ شكلُ شعلة
أنا لا يُرعبني لُعابُ الفوانيس
ولا سُعال الذِّئاب
خلف الواجهات الأنيقة
لكنْ أَخْبِروني
لماذا يتدثَّر المرضَى
بمعزُوفة الرِّيح
وأين هي سُرَّة الصَّحراء
الحنجرة تنتظر
لحظةَ نُضوج الصَّرخة
الجرادة تتأوَّه
على قِمّة المدخنة
هنالك مفاجآت كثيرة
في جنبات المدينة:
لقد شُرِع في صَلب النّادل
أمام المقهى
لقد تساقط ريشُ سنونو
على كتفيَّ الحالمتين
أنا رأيت ممرِّضِين عُراة
يُجلَدون داخل كهف
ومساءً يُوضَع
في تابوتٍ من غبار
وزوجين سعيدين حقّاً
لهما ذرِّية من فلّين
وها أنت يا ذكرياتي
تتزحلقين
على ثلوجٍ
من حَرير
عصـافيرُ سكْرى
ثمّة حانةٌ أُنادم فيها أشكالاً هُلاميَّة، تَرْقبنا عيونٌ لموتَى، وهي لا تزال تنبِض، منسيَّةً في الكؤوس وعلى المناضد. زفيرُ السَّاعات يَنْكأُ جراحَ حكايات غامضة، بينما تبحث قطرةُ خمر وحيدة عن معنىً للحياة داخل حنجرة سكِّير. الجنود الذين حاربوا في السَّراديب وعلى أرصفة المقاهي يُصَوِّبون بنادقَهم إلى قلب تمثالٍ يترنَّح مُعربداً. والطِّفلةُ التي تَهْجع منذ لحظات، تحلم بعصافيرَ سَكْرى تَنقرُ لسانَها الورديّ. على عتبة الباب، يقف شحَّاذٌ باسماً، فيما تتسكَّعُ روحُه بين صناديق القمامة، بحثاً عن قنانٍ فارغة. "أنتَ شجرة مأفونة، أنتَ غيمةٌ مُخَدَّرةُ الحواسّ، ذَرَّةُ رَمل تَبْكي في أعماق المُحيط..."، يقول النّادل المقنَّع للكهل الذي يعملُ ساعيَ بريد بين النّجوم. لكنّ هذا الأخير كان يغطسُ عمودَه الفقريّ في دَوْرَقٍ من نبيذ بابل، ويُفكِّر في عذاب البشرية الذي يَتمرأى في شاشة صمته العنيد.
أُعيدُ تكوين المشهد، فأرى وجهي مثقلاً بكلمات ذابلة. كلماتٍ، أنفاسي ستسحبُها خلفها إلى حيث ترتعش عظامُ البحر... لحظات وأمضي من شارع إلى شارعٍ يُطارد خيولاً غريبة، وهي تهرع نحو بَرارٍ مُدَثَّرة بِغَسق الكحول. لحظات وأجلس إلى منضدة مِن زَبَد، لأُنْصِت إلى أقمار شاحبة وهي تَبذر كآبتها في كأسي الأخيرة...
بدأتْ هذه الثُّلوج تصدأ
أقفُ تحت نافذةٍ تتردَّد خلفها شكاوَى عَجزة ومتسوِّلين يتقاسمون خُبزَ الملاحم القديمة. أقفُ تحت مطرٍ يقضمُ نهدَ عذراء تركض في مفازة العذاب، خلال هذا المساء الذي يرْفُل في فساتينَ من عوسج. طواحينُه تُفتِّت عظامَ الملائكة. وأنا الذي استهللتُ هذا الإعصار الجميل، لا أرى على شاشته إلا أقدامَ الموتى، مغروسةً في صناديق القمامة، تتشمّمها الذئاب... بدأتْ هذه الثُّلوج أيضاً تَصدأ أمام عينيَّ اللتين كانتا يمامتين سجينتين، وجَلَدهُما أقزامٌ كانوا لا يُغادرون بطونَ أمّهاتهم إلا خلال أعياد المُجوس. نيرانُهمْ تتثاءب على وسادتِي كلَّ صباح. دموعُهم تَصهل في محجريّ، فيما أصنع حماقاتٍ مُشِعّة من رماد الأيّام، وأترصّد أبواباً تُهرول بأقدام آدميَّة، منها سأدلفُ إلى مدن الماضي، مُنقسماً في جُسوم كثيرة. قد يكون أحدها هذا الشحّاذ الذي يَغفو في محارة بِحَجمِ خرائبِ عُمْره الطّويل. ومثلما يندلع شَبقُ النّار في قشّ صيف جميل، سيأخذني الحنين إلى ساحاتٍ مكتظّة بالمهالك، حيث عُميانٌ يَسْحَلون وجوهَهم المنطفئة، إلى مرافئ تَرسو فيها سُفن مُحمَّلة بقلوب الأرامل، إلى سريري الذي أمضي إليه عبرَ جسور سبعة، تتمدّد على كلّ منها امرأةٌ تفتح لي ذراعين من غبار... وحين أصل إلى نقطة انطلاقِي، أَضـيعُ في متاهةٍ من الضّوء، نشيداً في فَم العاصفة.