قِصّة واقعيّة (أروي أحداثها كما عِشتُها)

موظّف الاستعلامات موشكان يُنشئ عِصابة إجراميّة ـــــــــــــــــ

 نزلتُ في صباح ذلك اليوم (من أواخر سنة 2024) من تاكسي صغير قُربَ عيادة طبيب عيون بمدينة سَلاَ، وباعتبار تجربتي السّابقة مع شبّيحة موشكان وأمثاله، استرعى انتباهي شخص يتمشّى في وسط الشّارع ثمّ يعود إلى الرّصيف، بطريقة فيها تبختر وإبراز للعضلات، ويُدير رأسه نحوي، ففهمت أنّ هذا الضّخم المسكين هو بلا شكّ من حثالة يوظّفها موشكان ومن معه لمآرب حقير. وقد كان هذا الشّخص قاتم السُّمرة، يلبس قميصاً أزرق، وتَشي كلّ حركاته بالتّصنّع والتّمثيل، وقد توخّى إثارة انتباهي إليه...

تابعتُ طريقي نحو العمارة التي تُوجَد بها عيادة طبيب العيون د. زهير الحفيظي بحي تابريكت بِسَلا، وتُنعت بعمارة آدم 1، وهي قريبة من مبنى البريد بالحيّ المذكور. صعدتُ إلى الطّابق الثّاني ودخلتُ إلى عيادة الطّبيب. ونسيت ذلك الشخص ذا القميص الأزرق...

وبعد انتهاء الفحوصات، غادرتُ تلك العيادة، التي كنتُ أتردّد عليها منذ فترة. وكنتُ قد تعوّدت، بعد أن أُغادر العيادة وأخرج من عمارة آدم 1، أنْ أنعطف إلى اليسار، قاصداً محلبة (مقشدة) قريبة، وبحسب معدّل السّكّر في دمي، أطلب إمّا كأس لبن أو، في حالة هبوط معدّل السّكّريّ، أطلب قطعة حلوى، ففي محفظتي، توجد آلة لقياس السّكّريّ.... توجّهتُ إذن صوب المحلبة، وبدا لي أن الشّخص القاتم السّمرة، ذا القميص الأزرق، يطوف قرب باب المحلبة.

المهمّ أنّني دخلت إلى تلك المحلبة، ووقفت أمام كونتوارها، وكان أمامي ثلاثة او اربعة اشخاص. وكنتُ أشعر أنّ معدّل السّكّر في دمي في انخفاض، لكنْ سرعان ما وصلني الدّور، فقلت للبائعة التي خلف الكونتوار : "أعطني هذه الكعكة الله يخلّيك"، وأشرتُ بيدي إلى الكعكة التي أقصد. في تلك اللحظة، لاحظتُ أنّ تلك المرأة مُضطربة الملامح، وأنّ الدّم لا يدور بِبَشرتها بشكل طبيعي، فأنا كنتُ قد رأيت تلك المرأة عدّة مرّات مِن قبل. كرّرتُ طلبي، لكنّ ذهن تلك المرأة كان منخطفاً، وكأنّها خائفة مِن شيء ما ومتردِّدة. ثمّ خرجتْ مِن خلف الكونتوار، وانعطفتْ ووقفتْ خَلْف ظهري. انتظرتُ لحظات، وقد كنتُ متعجّلاً بسبب مشكل انخفاض نسبة السّكّر، فالتفتت نحوها، فوجدتها مُتوجّهة بوجهها نحو مرآة كبيرة، وتُولِيني ظهرها. كانت ممسكة هاتفها المحمول ورافعة إيّاه إلى أعلى، ورافعة رأسها أيضاً نحو المرآة. وكان ما بدا لي مِن وجهها مُصفرّاً، ويشي بِانقباض وخوف، فلمّا التفتْتُ ناحية باب المحلبة (المقشدة)، فهمتُ دافع المرأة إلى الاضطراب : لقد كان الشّخص ذو القميص الأزرق يُرَكِّز عليها نظراته ويحاول إبراز عضلات صدره بشكل مبالغ فيه. فكّرت أنا : "لا بُدّ أنّهم أرسلوا إليها هذا الشّخص قبل خروجي من عند الطّبيب - فهم يعرفون انّ من عادتي أن أُعَرِّج على هذه المحلبة قبل أن أعود إلى سلا الجديدة حيثُ أَسكن - ولا بدّ أنّهم خَوّفوها قائلين إنهم يمثّلون "السّلطات" وطلبوا منها أن تُمثِّل هذا الدّور الذي تقوم به الآن. تعاطفتُ مع تلك المرأة، فقد كانت مِن بنات الشّعب، لباسها متواضع وتشتغل في محلبة وربّما تكون هي التي تعيل عائلتها. فكّرتُ أنّ انصرافي من ذلك المكان سيُقلِّل عليها الضّغط، لكنّي لم أقتنع بهذا "الحَلّ"، فقرّرتُ ان أَتتبّع "المسرحيّة" إلى نهايتها.

بقيتُ واقفاً خلفها، متوجّها إليها بنفس العبارة: "أعطني الكعكة التي طَلَبْت"، وكانت هي تتزحزح وتحرّك ذراعيها ببطء وهي ترفع التلفون إلى أعلى ثمّ تُنزله قليلاً، وكان ما يبدو لي من وجهها قد أصبح شبه قرمزيّ قبل أن ينحدر مُجَدَّداً إلى الاصفرار، وقالت لي : "انتظرْ قليلاً. لا تتسرَّعْ. سأُرسِل الصّور أولاً...". تساءلت : "عن أيّ صور تتحدّث هذه المرأة ؟". وكانت تتزحزح إلى الخلف وتقترب منّي أكثر فأكثر، وبدا أنّا تُريد أن توحي لي بأنّها تُصَوِّر فيديو أبدو فيه واقفاً خلفها، وفهمت أنّ السيناريو خارج من العقل المظلم والغبيّ لموظّف الاستعلامات موشكان، فشعرتُ أنّي قد أضحك، لكنّ هاجس انخفاض معدّل السّكّر جعلني أحرص على جِدِّيّتي.

فقد فكّر موشكان أنّ الاستعلامات تستعمل الفيديوهات والتسجيلات الصّوتيّة، ولذا فعليه أن يقوم بشيء من هذا القبيل، وما دام لا يجد شيئاً ممّا يحلم به، فقد أصبح يفكّر في تصوير أيّ شيء أو إنشاء فيديو من أيّ تفاهة وفي أن يُزّوّر، ولو أدّى ذلك إلى غرائب مضحكة وحماقات.

 وهكذا، فإنّ تلك المرأة - التي كانت طيّبة في العادة - بدأت تتزحزح الآن إلى الوراء، حيث أنا واقف أنتظر أن تعود إلى خلف الكونتوار... وكان ذلك "الشّبّيح" صاحب القميص الأزرق يُجَدِّق في وجهها من باب المحلبة، وفي لحظة ما، شعرتُ بِأنّها احتكّت بي قليلاً، فجعلتُ يدي اليُمنى بيني وبينها، فقالت المسكينة، بصوت مضطرب : "لا تدفعني بيدك... سأنتهي من إرسال الصُّور وأَلتفت نحوك" !

ثمّ جاءت اللحظة التي عادتْ فيها إلى مكانها الأوّل، وقدّمتْ لي الكعكة المطلوبة في صحن صغير، بطريقة رغبت في أن تكون فظّة، ففهمتُ أنّ المسكينة تتصرّف بذلك الشّكل مُكْرَهةً. المهمّ أنّي أدّيتُ ما عليّ بعد أن أتيتُ على كعكتي وانصرفت. وفي لحظة خروجي من المحلبة، لاحظتُ أنّ "الشّبّيح" ذا القميص الأزرق مضى إلى حال سبيله بعد أن أنهى مُهِمّته.

لكنْ سرعان ما اضطُرِرت للعودة إلى المحلبة، فقد شعرتُ بأنّ انخفاض معدّل السّكّري لديّ قد يُسَبِّب لي دوخة شديدة، فلا بُدّ إذن من أن أستهلك خمس قطع سُكّر أو ستّ. فما إن دخلتُ إلى المحلبة هاته المرّة ولمحتني تلك المرأة، حتّى تغيّر لونها مُجَدَّداً، فقد ظنّت أنّني عُدتُ لأنتقم منها على دورها في السّيناريو الذي وَصفت. لكنّني حيَّيتها بهدوء، وطلبتُ منها قِطع سُكّر. وقد احمرّ وجهها وفرحت بشكل واضح، وقالت لي : "سأصعد إلى فوق لأجلب لك مسحوق السّكّر (سانيدة)، فهو كلّ ما عندنا"، فأجبتها : "لا داعي لأن تُتعبي نفسك"، لكنّها قالت : "لا، لا، سأصعد"، وصعدت بالفِعل دَرَجات خَشبيّة نحو عُلّية (سدّة)، وجلبتْ لي كمّية كافية مِن مسحوق السُّكّر...

عُدتُ إلى سلا الجديدة، وكنتُ أعلم أنّ القِصّة التي بدأتْ في تلك المحلبة لم تنته بعد. وبالفعل، ففي اليوم الموالي، فيما أنا أتمشّى على رصيف شارع قريب مِن بيتي وأمرّ بِجانب شخصين لم أنتبهْ لهما في البداية، سمعتُ أحدهما يقول للآخر : "إنّه هو... يسكن أمام تلك الثّانويّة... المشكل عنده خطير". شعرتُ بأنّهما يتحدّثان عنّي وعن سيناريو محلبة سلا. التفتتُ نحوهما : كان أحدهما معروفاً عندي، فهو حارس سيّارات سابق، وبائع سجائر بالتّقسيط سابق، وكان واحِداً مِمّن يُكلِّفهم اسْعَيَّد، وهو موظّف استعلامات بسلا الجديدة، ببعض المهامّ الوخيمة والخبيثة والمضحكة أحياناً (سأعود مستقبلاً لأروي قصصاً مُفصّلة في هذا الصَّدَد). أمّا الشّخصُ الآخر، فكان شخصاً بديناً بعض الشّيء، كنتُ لاحظتُ أنّه يبيع التّبن والفحم حين يقترب عيد الأضحى، وفي مساءات أيّام رمضان، يبيع الحلوى "الشّبّاكية" وأنواعاً من الكعك، يعرضها على سطح عربة يد...

قلت في نفسي: "هذان مِن جَيش موشكان واسْعيّد". وكان هذا الأخير يستعمل أيضاً تلميذات وتلاميذ، بعضهم صغار في السّنّ، بل ويستعمل أيضاً، بشكل شائن، بنات بعض موظّفي وموظّفات الاستعلامات…

تابعتُ طريقي، وبعد نحو مئتي متر، مرّ بمحاذاتي رجل وامرأة، وما إن تجاوزاني ولم أعد أراهما، حتّى سمِعتُ الرّجل يقول للمرأة : "أمر من ذلك القبيل لا يمزح معه القانون... خمس سنوات سِجنا هي أقلّ مدّة حكم في مثل تلك الحالة". ثمّ مرّ ثنائيّ ثالث، فردّد كلاماً بنفس المعنى... ولحظتها، رأيتُ أحد الاستعلاماتيّين قادماً في اتّجاهي، وبيده هاتف محمول، ففهمتُ أنّه يُريد أن يستقصي ردّ فعلي إزاء ما وقع وما سمعت... فبدأت أتحدّث بِصوت مُرتفع، ورويتُ عن واقعة تعنيفي لموشكان في إحدى حانات الرّباط، وكيف كان ذلك التعنيف قد نجم عن نذالة ذلك الشّخص الذي لم أكن أُحبّ أن أحتكّ به بتاتاً. ولا داعي لأن أروي تلك القِصّة ها هنا.

مسألة لا بُدّ مِن أن أُضيفها : كنتُ قد فكّرت في أن أذهب إلى تلك المحلبة وأُخبر تلك المرأة بأنّها تعرّضتْ لاضطهاد خطير، وفُرِضتْ عليها مساعدة عِصابة إجراميّة، ولذا، فأنا سأتكفّل بوضع شكاية لدى السلطات المختصّة وتكون هي شاهدة على ما تعرّضتْ له مِن إكراه... لكنّي تصوّرتُ أنها ستخاف خوفاً شديداً من أولئك البلطجيّة، فتناسيتُ ما وقع في تلك المحلبة وخارجها...