شَعْر أسود، نصوص شقراء (استذكار ناديا تويني)

مبارك وساط           


  إثْر وفاة الشّاعرة اللبنانيّة الفرنكوفونيّة ناديا تويني (20 - 6 - 1983)، ظهرتْ لجورج شحادة (الذي كتب، أيضا، أعماله الشّعريّة والمسرحيّة بالفرنسيّة)، قصيدةٌ قصيرة، بعنوان " نُصب تذكاريّ لناديات"، هذه ترجمتها٭: « لقد غادرتْ يَدَ أصدقائها صوبَ حديقة كاملةِ الزّرقة ومُغْلقة حيثُ يُحلّق الطّائر مع عُشّهعينان سوداوان شَعر أسودوالآن كلُّ ما للظّلّ من جمالعلى كتفيها». ففي الإشارة في عنوان هذه المقالة إلى «الشَّعر الأسود»، تلميحٌ إلى هذه القصيدة.

أمّا «النّصوص الشَقراء»، فهو عنوانُ الأولى من بين مجموعات ناديا تويني الشِّعْرِيّة، وقد ظهرتْ في بيروت سنة 1963، بعد مرور عام على وفاة طِفلتِها نايلة، التي قَضَتْ وهي في السّابعة من عمرها بداء السّرطانوقد أشار بعضٌ ممن عرفوا ناديا تويني إلى أنّها لم تكن تبْدو ذاتَ ميل إلى كتابة الشِّعر قبل وفاة ابنتها، ثُمّ فجأة... فلا شكّ أن فقدان الابنة كان هو الحَدث الذي جعلها تنتقل من الصّمت الشّاعري إلى الشِّعر الذي يَجهر بِحُضوره الفِعليّ.

وُلِدتْ ناديا حمادة التي ستُصّبح نتويني بعد زواجها بالدّيبلوماسي والصّحافي اللبناني غسّان توينيببلدة بَعَقلين، بلبنان، سنة 1935، لأب لبنانيّ وأمّ فرنسيّةكان والِدُها محمّد علي حمادة ديبلوماسيّاً، وقد عُيِّن للعمل في اليونان سنة 1950، فانتقل إليها رفقة العائلة، وهكذا تابعت شاعرة المُستقبَل دِراستها آنذاك في الثّانويّة الفرنسيّة بأثيناوقد اكتسبتْ ناديا ثقافة مُزدوجة، عربيّة وفرنسيّة... درست الحقوق من أجل أن تُصبح محامية، لكنّها أوقفتْ دراستها إثر التقائها بغسّان تويني واتفاقهما على الزّواجورغم أنّ اقتران فتاة من عائلة على المذهب الدّرزي بشخص مسيحيّ لم يكن يبدو مقبولاً من طرف الكثيرين، فقد أصرّتْ على اختيارِها... بعد كتابها الأولالذي اعْتَبَرَتْ، لاحقاً، أنّها تسرَّعتْ إذْ نَشرتْهظهرتْ عن «منشورات سيغرس»، بباريس، مجموعتها الثّانية: "عُمْرُ الزَّبد" (1956)، وأجواؤها مُرتبطة، أيضاً، بفقدان الابنةومنذ ذلك التّاريخ، اعْتُبِرَتْ ناديا تويني من أبرز من يكتبون شعراً بالفرنسيّةمن مجموعاتها الشِّعريّة الأخرى: "يونيو والكافِرات" ( صدر عن دار سيغرس في 1968،ونصوصُه مرتبطة بحرب 1967)، حالِم الأرض (1975، سيغرس)، لبنانعشرون قصيدة من أجل حُبّ ( 1979، بيروت)... تبقى الإشارة إلى حدثٍ مأساويّ آخر عاشَتْه ناديا تويني في حياتها الشّخصِيّة، وهو إصابتها بالسّرطان سنة 1965، وهي لم تمنعْها من نشاط أدبيّ وصحافيّ كثيففعلى امتداد سنوات، تعايشتْ مع مرضِها وقلقِها وإبداعِها، إلى أن انتصر الدّاء وأَودى بحياتِها في يونيو 1983.

في واحدة من قصائد "النّصوص الشّقراء"، تستكشفُ نتويني القدرات السّحريّة للنّظرة، باعتبارها انفتاحاً للذّات على الآخرين وعلى العالَم وسَفراً نحوهم ونحوه: « تكفي نظرة ليبكيَ الثّلج ويختمرَ النُّسغ بخميرة الحُبّ تكفي نظرة ليُهْـصَـرَ المرء ويَفِرّ وتكفي أيضاً لكيْ ينبجِسَ الحُلم!». لا تسعى الشّاعِرة إلى تجميل التجربة الإنسانيّة، لذا فهي تبدأ إحدى قصائدها كما يلي: « تكفي نَظرةٌ لتنمو بذرة الكراهِيّةويستشري القلق في دواخل المجرّات

لِمَ هذا العنوان: "النّصوص الشّقراء»؟ إنّه يُحيل إلى شُقرة شَعر ابنة الشّاعرةوفي "عُمر الزَّبد» – المجموعة التي أنهتْ نتويني كتابتها وهي في فرنسا (حيثُ كانتْ تتلقّى العلاج من داء السّرطان)، نقرأ: «هل تعودين إذا قلتُ الأرْضُ هي على أطراف أصابعكمثلما غُصن تَفحَّم ثُمّ ابترد؟ العصافير ماتتْ مراراً في نزولِها عموديّاً صوب شَعرك الأشقر /.../ فات الأوان فلن يولَد المرء في كلّ لحظة جاثياً أمام وجوهٍ ألوانُها قرابين مثلما عنق مُنتَزَع من الماشية التي تفترس شعاعَ شمس هل تعودين إذا قلتُ البحرُ على أطراف أصابعك؟».

تجب الإشارة إلى أنّ ناديا تويني عاشت ألمها الشّخصي، وآلام النّاس من حولها، في منطقة من العالم عرفتْ حُروباً وصراعات دَمويّةهكذا لن يعسُر علينا أن نواكبها في قصائد من قبيل "الباقون على قيد الحياة" (من مجموعة "قصائد من أجل تاريخ"): « عٌصفور على الغَرب يَحُطّبالكاد في يديك يتعنّت الليل، والحُبّ مثلما رائحة يتمدّد، هكذا هو الفَجر الذي يَشُلُّ منّي حتّى القَدّلو أمكنني أن أقول ليسَ لي غيرُ صَمت واحد، لو أمكنني في الضّوء الذي لا يُجيب أن أصنع من صرخة بلاداً بخطوة هي خُطوة المُحيط أمنح الماء اسماً، والسّماءُ ستُجَنّ الأرضُ تعرّفتْ على شفتيّ / (...) / سنبقى على قيد الحياة حَدَّ أنّنا سنضحك من ذلك / (...) / ما الذي نقوله للرّيح التي تُقطّع أوصالنا، للخوف الذي يَقْطعُ رؤوسَنا؟ كلّ إنسان نائم هو جزيرة هل كنتُ تلك الصّورة المُثَقّبة بألف قلق والتي تنزفُ من الذّاكرة (...) / يتعلّقُ الأمر بصباح ينفلتُ من بين أصابِعي، صرخاتُهُ من كلّ الألوان...».

يبدو واضِحا من المقاطع التي أوردت، أنّ الشاعرة عاشتْ قلق زمنها دون أن يهتزّ حبّها للحياة وللأحياءفقد كتبت قصائد جميلة عن بيروت وعن جبال لبنان وأهله وعن «طفل الحجارة»، وفي نفس الوقت، كانت كونيّة الانتماء، فكأنّ حنينها الحقيقي كان لمستقبل بلا حروب ولا طائفيّة أو عنصريّة... وقد كتبتْ ذات مرّة أنّ مسألة الموت ستكون بسيطة جِدّا لو أنّ كلّ إنسان يموت مرّة واحدة فحسب.

أودّ، في الختام، أن أدعو القارئ إلى قراءة هذا المقطع من قصيدة "أرض مجنونة": « اسْمعْ أنت الذي يقوم صوتُهُ بحركات مديدة ويداهُ نشيدُ طائر اسمعْالمدينة البيضاء هي قبر. / إيّاك أن تخشى المساء أو الضّجركلاهما ينفتحُ على حديقة إيّاك أن تخشى الحُبّ أو الليل، الموتُ عربة ماضية في طريقها نحو الشّرق،والحياة ليستْ إلا الحياة، ملجأ بسيط للنّظر. / اسمع. / هنالك، على ظلّك سُبُل للسّكينة. / المُطلَقة».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ                                                                                 

٭ هذا المقطع الشّعريّ وسائر المقاطع التي ستليه هي من ترجمتي (م. وساط)