صدر للشاعرة الفلسطينيّة (المقيمة في سويسرا) مُنى العاصي، قبل بضعة أسابيع، مجموعة شِعريّة متميّزة جِدّاً تحمل عنوان: "تمرين على النّباح" (دار موزاييك- إسطنبول). وقد تفضّلتْ الصّديقة مُنى العاصي، بِكَرم شاعريّ، وأرسلتْ إليّ نسخة إلكترونيّة من مجموعتها المذكورة، وبهذا منحنتني فرصة استكشاف عالم شِعريّ ذي جاذبيّة قويّة تجعل القارئ ينغمس فيه ويذرع جنباته بشوق متجدّد إلى القراءة والاستكشاف.
الشاعرة مُنى العاصي فلسطينيّة، كما أسلفت، كانت مقيمة في الإمارات، وهي تعيش حاليّاً في سويسرا. إنها مهاجرة، متمرّدة، غاضبة، واليأس يمدّها بالعَون ! تحدّثتْ، يوماً، في حوارٍ صحافيّ معها عن تجربتها مع الغربة فقالت: « كانت سيئة جدّاً وقاسية، جعلتْني أُعيد حساباتي وأَنبش كثيراً في داخلي لأتحوّل من الإيجابيّة الى اليأس الذي اكتشفتُ أَنّه ساعدني، فاليأس رفيق المحاربين وهو الذي قادني للشعر »، كما أنّها تعتبر الشِّعر « خسائر مُتراكمة». كانت قد صدرتْ لها مجموعة بعنوان "كيف تُرَبّي نافذة"، وقالتْ، وقتَها: « كما أربّى النوافذ، أربّى اليأس ». فالشاعرة المغتربة، منى العاصي، لا تستطيع التأقلم مع الغربة، ويبقى الشِّعر نافذتها التي تستنشق منها هواءً خاصّاً يُساعدها على العيش.
ومُنى العاصي هي أمّ أيضاً، ويحدث أن تتوجّه بالكلام الشِّعريّ إلى ابنتها نايا، بل إنّها تصوغ إهداء مجموعتها "تمرين على النّباح" كالتّالي: « إلى غزالتي نايا». وفي قصيدة "عَرَق بلديّ"، المنتمية إلى هاته المجموعة والمهداة إلى ابنتها نايا، تقول:
يومَ مماتي
ستكونين آخر غريبة
في هذه البلاد
تعلّمي لغة الأموات
وأنصتي للطرقات الصمّاء
اتبعي صغار السمك
إلى مجرى الدمع
كي لا تكوني وحيدة
وحين تسقطين
في فنجان قهوة
لشاعرة ترتدي ثوبًا
تطير منه المدن
وتقرأ سيرتك
ستعرف أن أمّك خرجت للعاصفة
ببندقية صيد فاخرة
وقنينة عَرق بلدي.
إنّها الشّاعرة التي تَخرج إلى العاصفة، كما قالت، مُسلّحةً باليأس، فتكتب لنا نصوصاً شِعريّة نتتبّع فيها هجرة الدّلالات والتّشكّل المستمرّ لأطياف المعاني، وإذا عنّ لها أن تُعلن عن غضبها، فهي لا تتوانى عن فعل ذلك. أليستْ هي التي تقول، في قصيدتها "تمرين على النباح" (التي تستقي منها مجموعتها هاته عنوانها):
ستبدأ حفلة الركض
تمتمت بما لا أعني وعبرت باب العداوة
يحرسه صاحب البناء
عرف الله فصرت عدوته
بدأت حفلة الركض
فاستنجدت بالبيرة
وبحشيش الأفغان
وربطت خيط قلبي بخيمة
على حدود البلاد
ليت البلاد بلاد، يقول سانغو الغاني
وتسيل من عينيه سفن الأجداد
أسمعني حكاياته فبكيت
ولعنت الأبيض والأسود
وما بينهما
وشتمت الدول الخمسة
والأشياء التي يسبقني قلبي إليها
ولا تحدث.
عالَمٌ شاعريّ أخّاذ، ببروقه القاتمة ونجوم يأسه المُلَوّنة، تسوده التّساؤلات، وتكون اليدُ فيه " غيوماً سَوداء"، ويصير الحزن فيه "مُدَلّلاً". لنقرأْ:
ما لا يزال ينعتق
![]() |
منى العاصي |
ما من جدار
في الجوار.
ما من شيء سوى
غياب يهز الوقت
ما الوقت؟
إذ تعرف العتمة
عن ظهر قلب ظلماتها
وتناور
ما الغفلة؟
إذ ينزل حزن مدلل
على درج البال
لا يقول شيئًا
غير أن زهرته تشق مع أصولها
سياج القلب
لم يقطفها من قال
سأعود
ما الصمت؟
فصيح اليد في قبضة الغياب
ما اليد سوى غيوم سوداء تدني
أحدًا قال أحبك
منذ سنين
أحدًا يحوك أخيلةً
ويتبعُ الصّدى.