عن القطارات


 مبارك وساط



                        

                                     "مُتوحّداً، يَسْحب القِطار خلفه بُخاره"



                                                            تريستان تزارا


             

 إنّ للصُّور، المرافقة لنصوصٍ سردية أو شعريّة، قوّة كبيرة في شحن مخيلة القارئ الطّفل بالأحلاموليتيقّن الواحد منّا من هذا، فما عليه إلا أن ينقّب قليلاً في تجارب معيّنة من زمن طفولتهفيما يخصّني، أَذكر جيداً كيف أن الرغبة في السباحة في البحر، مثلاً، وفي السّفر بالقطار، وفي الدخول إلى المسرح تولّدت لديّ، في البدء، نتيجة استغراق في تأمّل صور في كتب المطالعة العربية أو الفرنسية التي كانت معتمدة لتدريسنا في الابتدائيأو، على الأقلّ، فإن تلك الرغبات تكون قد تبلورت لدي وتحددت وأصبحت شعوريّة نتيجة التأمل الشّغوف لتلك الصور.

 ما سيحدث، لاحقاً، هو أني سأكتشف الشاطئ وأدلف إلى ماء البحر، المتاخم للرمال لا أبعد، بعد سفرة أولى في قطاركان ذلك في صيف سنتي الثانية عشرةففي ذلك الفصل، جاء لزيارتنا بمدينة اليوسفية التي يشتغل أغلب سكّانها في مناجم الفوسفاط ابن خالة لوالدي هو سيد أحمد وهو أيضاً صهر عمّ لي ساكن بالرباط، وقال إنه سيقصد هذه المدينة في اليوم الموالي لزيارة ابنته وزوجها (عمّي الكبيروأفراد آخرين من العائلةكان سيد أحمد ذاك إنساناً مرحاً وطيباً، وسيعمّر طويلًا طويلاً، ويبقى صلب البنيان، وبحسّه المرح سيكرّر لسائليه، كلّما سألوه عن سنّه الحقيقية: "ممكن أبونا آدم يكون أكبر مني بشهرين أو ثلاثة!". المهم أنني، خلال ذلك الصيف المذكور، ركبت القطار أخيرًا من اليوسفية، متوجهًا إلى الرباط برفقة سيد أحمد، وفي الرباط كان الشاطئ بانتظاري، إضافة إلى كتب، ببيت عمّي الصغير، كانت تنقلني إلى عوالم فيها حروب وأبطال وسَحَرة وعيّارون وعشّاق، وربما جنّ أيضاً

 ستتلو تلك المرة الأولى مرات ومراتوقد حدث طبعاً أنْ رافقتْني كُتُبٌ أثناء رِحلةٍ في قِطار، فقرأتُ كلياً أو جزئيًا - عدداً من الكتب على الإيقاع الرتيب، المعدني، لدوران عجلات الحديد على السكةمن بين تلك المقروءات، أذكر: "الدكتور جيفاغو"، "قلب الظّلاملجوزيف كونراد، ورواية كان قطارٌ مسرحَ أحداثها قطارٌ، هي: "جريمةُ في قطار الشرق السريعلأغاثا كريستي)... 


 لَطالما أثارتني تسمية "قطار الشرق السريع" أو "سريع الشرقأو "إكسبريس الشرق"، وبدت لي موحية، في الآن نفسه، بعبق الشرق وسحره، من جهة، وبعالم الصّناعات الغربي بأسراره التي لا يزال القسط الأوفر منها مستعصياً على عالمنا الثالثومن "أبحاثيفي هذا الشأن، علقت بذهني بضعة أمور، منهاأن "سريع الشرقالأول أنشئ في 1883، وأنه، بعد أن انتهى زمن خدمة "سريع الشرقالأول ذاك، أصبحت هنالك كوكبة من القطارات يشكّل تعبير "سريع الشرققسماً من اسم كل منها، مثلما ترسخت في ذاكرتي وهل يمكن إلا أن تترسخ هذه الحادثة المثيرة التي وقعت في يوم الخميس سبتمبرأيلول 1984 بداخل قطار "فنيتسيا سِمْبلُونْ ـ سريع الشرق" (يا للاسم المعقد): فحين آنت لحظة إقلاع هذا القطار من محطة إنْسبورك (بالنمساحيث كان قد توقف، فوجئ الميكانيكيون بعدم تمكّنهم من جعل الكوابح تنفك، الأمر الذي بقي معه القطار جاثماً في مكانهوبدأ المراقبون والميكانيكيون تحريّاتهم، وانتقلوا من عربة إلى أخرى، وفحصوا العجلات، وأخيراً، اكتشفوا لغز استماتة الكوابح في إيقاف القطارفقد كان هنالك زوجان في آخر العربات، لم يستطيعا التحكم في صبوة ألمّت بهما، فأطلقا العنان لجسديهما اللذين اندمجا في نشاط غرامي لا هوادة فيه، الأمر الذي نتج عنه علوق مقبض جهاز الإنذار بإحدى قدمي السيدة، ما أدّى إلى تشغيل مكبح الإغاثةوهكذا، سيصل الركاب إلى مقاصدهم متأخرين، ضاحكين، ومن فرط حس الفكاهة الذي استبدّ بهم أطلقوا على القطار، عوض "إكسبريس الشّرق"، تسمية: "سِكس بريس الشّرق"!

                        

 ذكرى خاصّةفي صيف 2010، كنت من بين المدعوين إلى مهرجان "أصوات حية من متوسط إلى متوسطالذي يقام بمدينة سِيتْ بالجنوب الفرنسيولأني كنت سأتوجه من مرسيليا إلى سِيتْ، فإن إدارة المهرجان حجزت لي مقعدًا في القطار إلى جانب مقعدي مشاركتين في الأنشطة الشعرية بالمهرجان المذكور، إحداهما شاعرة من الكيبيك، والأخرى فرنسيةوكنت أنا، قبل تسعة أيام تحديداً من يوم رحلتنا المشتركة تلك، قد توقفت عن التدخين، بعد أن أنذرني طبيب القلب والشرايين بوخيم العواقب إن لم أفعلفي طريقنا، كانت كل من السيدتين تتشكّى من التأثير الضار للتدخين على صحتها، وقالت الشاعرة الكيبيكية إنها تنوي تجريب السيجارة الإلكترونية، وتكلّمت أنا فقلت إنه ليس هنالك ما هو أسهل من الانقطاع عن تلك العادة، وأضفت أنني دخنت لما لا يقل عن خمس وثلاثين سنة، "وها أنا الآن، قلت بنبرة فيها بعض الزهو، قد انقطعت واسترحت!". وقالت السيدة الفرنسية: "سأقتدي بك وأشحذ عزيمتي". لكني ما إن وصلت إلى سِيتْ، والتقيت بمعارف وأصدقاء من الشعراء وغير الشعراء، حتى عدت إلى التدخينوكثيرا ما كنت أجلس في رفقة الشاعر الإماراتي المرحوم أحمد راشد ثاني، وننصرف إلى التدخين وعبّ الفودكاوهكذا، أصبحت تلك السيدة الفرنسية، كلما رأتني وأنا منصرف إلى نشاطي ذاك، تأتي وتسدي إلي النصائح، وتطلب مني أن أرعوي فأدخن إن شئت، ولكن من دون إفراط!

***

رابط المقال في "موقع الكتابة الثّقافيّ": عن القطارات...