حين رغب موشكان في إنجاز فيديو "خطير" يُستعمَلَ ضِدّي !

 مبارك وساط

أخطو الآن على رصيف به أناس قلائل، في يدي اليُمنى محفظتي، وسأدخل العمارة التي عُلّقت قُرْب الجانب العُلْويّ الأيسر من بابها يافطات، من بينها واحدة تحمل اسم الدّكتورة ر.م. إنّها طبيبة ذات اختصاص ما في الطّبّ الباطنيّ، وقد أخذتُ بالهاتف موعداً لزيارتها. عيادتها في الطّابق الثّاني.

أستعمل المصعد. أدخل العيادة. إلى يساري، ممرّضة خلف كونتوار صغير . الممرّضة في نحو الأربعين، قصيرة وبدينة. شعرها شديد القِصَر. أُناولها بطاقتي الوطنيّة، فتنقل منها اسمي وسنة ولادتي. تسألني عن رقم هاتفي وتكتبه. تسألني أيضاً إنْ كان لديّ مطبوع تعاضديّة يريد تعبئته وختمه، فأجيبها بالإيجاب... تُشير إلى جهة الكراسيّ المركونة جنب جدران القاعة، وتقول لي: "تفضّل، اجلسْ وانتظِر".

أتوجّه نحو كرسيّ فارغ في زاوية، قرب نافذة مُغْلَقة. بصوت خافت، أقول لزبائن الطّبيبة السّتّة المتحلّقين في نصف دائرة: "السّلام عليكم"، ثمّ أجلس.

إلى يميني، الممرّ الذي يُؤدّي إلى مكتب الطّبيبة، وإلى حجرات أخرى فيما يبدو لي. يخرج من ذلك الممرّ رَجلٌ شيخ. لقد استكمل عمليّات الفحص، فهو ماضٍ صوب الكونتوار الصّغير ليُؤدّيَ مبلغاً مادّياً للممرّضة. بعدها، يلتفتُ نحونا نحن الجالسين، يقول: "الله يجيب الشّفاء". هنالك مَن يقول له: "لنا ولك". يمضي الشّيخ نحو الباب، ثمّ يُغادر العيادة.

تُنادي الممرّضة على اسْم مريض آخر. ينهض المعنيّ بالأمر، فتمضي به عبر الممرّ. أتذكّر المسرحيّة الرّديئة التي كانت قد مثّلتها ممرّضات في عيادة طبّية، والتي كانت من تأليف موظّف الاستعلامات (استخبارات الدّاخليّة) موشكان. تستعيد ذاكرتي الممرّضة نجوى وهي تعدّ أوراقاً نقديّة تستخرجها من كرتونة بيضاء مستطيلة*، جالسةً قبالتي، ناظرة إليّ بطريقة غريبة. أفكّر : والآن، ماذا عليّ أن أنتظر مِن موشكان الرّديء، الذي عنّفتُه ذات يوم بشكل قويّ في ساحة دورة مياه إحدى الجانات، وكان قد استحقّ ذلك. أكيد أنه لا يستطيع أن يقتلعني من ذاكرته…

تمضي الأمور خلال تلك الزّيارة بشكل روتينيّ. الطبيبة أدّت واجبها، وأنا أدّيتُ ما عليّ وغادرت.

أعود بعد فترة، فالفحوص ينبغي أن تتمّ بِشكل دَوريّ.

في هذه المرّة، ما إن تمرّ نحو خمس عشرة دقيقة وأنا جالس في قاعة الانتظار، حتّى يتراءى لي في شقّ الباب وجه ليس بالغريب عنّي. يدخل القادم الجديد، وبشكل تلقائيّ أَرمقه لِلحظة ثمّ أُشيح عنه بسرعة. أُدرك أنّه يتفادى أن تلتقي نظراتنا، وأشعر بقوّة بأنّه جاء لِأمر يتعلّق بي. ربّما للتّأثير على الطّبيبة بِخصوصي. فأنا أتذكّر وجهه العريض بجبينه الزّائد الارتفاع والنّاقص العرض، وشَعره الكثّ القصير. شخص هادئ، رأيته مرّتين أو ثلاثاً في مقهى مع أحد موظّفي الاستعلامات. إنّه يجلس الآن في الصّفّ المُقابل للذي أجلس فيه أنا. لكنّ عيوننا لا تلتقي...

أخيراً، يأتي دوري. تدعوني المُمرّضة فأدلف عبر الممرّ، وتُدْخِلني إلى غرفة إلى يميني. بعد دقيقتين تلحق بي، وتُجري لي فحوصاً أوّلية وتخطيطاً لكهربيّة القلب، ثمّ أصعد فوق ميزان لِتعرف وزني

حين ألتحق بمكتب الطّبيبة أجده مفتوحاً، والطّبيبة جالسة خلف مكتبها، والذي يجلس أمامها، في الجهة القريبة من الباب، هو الاستخباراتيّ ذو الجبين المرتفع والضّيّق. يرفع هذه المرّة عينيه تجاهي ويبتسم. أنظر إليه وأبتسم بِدوري. أقف منتظراً أنْ يخرج لأنفذ أنا إلى مكتب الطّبيبة. لكنّه حين ينهض لينصرف، تقف الطّبيبة بدورها خلف مكتبها. يمضي هو إلى حال سبيله، وتتحرّك الطّبيبة قادمةً نحوي. إنّها أطول منّي بسنتمترات. شديدة السّمرة وشعرها الطّويل معقوص فوق رقبتها، لا هي بالنّحيفة ولا بالبدينة. ربّما تكون في الخامسة والثّلاثين.

إنّها تسبقني وأدخل خلفها إلى غرفة فسيحة. تجلس الطّبيبة على أريكة باهتة الخُضرة ووثيرة، وأتّخذ لي مكاناً، إلى يسارها، على أريكة مماثلة. وفي الجهة المقابلة لي، أريكة ثالثة، في نفس لون الاثنتين المذكورتين، لكنّها طويلة. ولِصْق الجِدار الذي إلى يساري، أريكة من صنف مختلف، عالية وبلا ظهر، مستندة مباشرة إلى الجدار. لا شكّ أنّها تُستعمَل للفحوص.

أمام الطبيبة وأمامي، منضدة عليها أوراق، وقلمان أوثلاثة. محفظتي هي على طرف من المنضدة، قريب منّي. تسألني إن كان لديّ تخطيط سابق لكهربيّة القلب حتّى تقارن بينه وبين التّخطيط الحاليّ... أقول لها: "سأرى. لا أدري إن كنتُ قد جلبتُ معي تخطيطاً قديماً...". أفتح محفظتي وأستخرج منها ما أُسمّيه ملفّي الطّبي. أُخرج من بين دفّتيه جَريدة اشتريتُها في الأسبوع الماضي (على إحدى صفحاتها قصيدة لي. أضعها جانباً. ثمّة نُسَخٌ مُصوّرة من وصفات طبّية وأخرى من بطاقتي الوطنيّة، وأوراق متنوّعة، لكنْ ما مِن تخطيط قديم. الطّبيبة تتكلّم وتُمسك بين إصبعي يمناها السّبّابة والوسطى قلماً تُحرّكه يميناً وشِمالاً. يداها ليستا ناعمتين بل هما تُوحِيان بصلابة مّا. سألتُها إن كانت حالة قلبي وشراييني سيّئة جِدّاً. قالت: "لا، يجب أن تكون متفائلاً، لكنْ لا تُفَرِّط في الأدوية. اِحْرِصْ على تناوُلِها بالانتظام اللازم". ثمّ سألتْني: "هل ما زلتَ تُدَخّن؟". قلتُ لها: "نعم، لكنّي أُحاول أن أنقص من عدد السّجائر التي أُدخّن يوميّاً". قالت: "على أن يكون هدفك على المدى القصير هو الانقطاع عن التّدخين تماماً". بعد لَحظة صمت، أضافتْ: "هنالك أيضأ عامل أساسيّ فيما يتعلّق بنجاعة كلّ علاج، وهو الحالة النّفسيّة لمتلقّي العلاج... يجب أن تبتعد عن كلّ مُسَبّبات القلق والتّوتّر، أليس كذلك؟".

مدّت الدّكتورة يدها وتناولت الجريدة التي كنتُ قد أخرجتُ من ملفّي الطّبّي. قالت: "هل تقرأ الجرائد باستمرار؟ هل تهتمّ بالسّياسة؟". أجبتها: "أقرؤها من حين لآخر". ندّتْ عنها ضحكة مُقتضبة. وبدتْ لي متفاجئة، بعد أنْ ركّزتْ عينيها على صورتي المُدْرَجة في الجريدة. سألتني: "هل تكتب في هذه الجريدة؟". أجبتها: "لا. إنّ أنشر فيها - وفي غيرها - قصائد أحياناً". قالت: "إذن فأنت شاعر؟". أجبتُها: "أُحاول أن أكون شاعراً". قالت: "كنتُ أقرأ شِعراً فيما مضى، ومنذ وقت طويل لم أفعلْ... سأكون مسرورة إنْ أَطْلعتَني على بعض شِعرك...". ثمّ أدارتْ يَدٌ مقبض الباب، واستدرتُ قليلاً فرأيت أكَرَته تتحرّك. أطلّت الممرّضة، ونهضت الطّبيبة فمضتْ نحوها، وخرجتْ من الغرفة.

بعد نحو خمس دقائق، عادتْ. جلستْ في مكانها، ولاحظتُ أنّها مضطربة قليلاً، ومتضايقة مِن شيء مّا، كما أنّ غلالة شبه صفراء غطّت وجهها. تأخذ ورقة مِن فوق الطّاولة، تتفرّس فيها، ويبدو لي أنّ ما تهدف إليه من هذه الحركة ليس هو قراءة السّطور التي أمام عينيها، وإنّما مداراة اضطرابٍ أَلَمّ بها. تصمت قليلاً، ثمّ تنظر إليّ بتركيز كأنّها لم ترني إلّا في هذه اللحظة، وإثر ذلك تنهض وتقول لي: "تعال. يجب أن أُجريَ لك فحوصاً".

أخذَتني إلى الأريكة العالية. طلبتْ منّي أن أتمدّد على ظهري. بدأت تُنقّل السّتيتوسكوب على صَدري وتتنصّت. ثمّ فحصت ساقيّ وقدميّ. قالت: قدماك مُنتفختان قليلان، وكذلك ساقاك. أوصيك بلبس الصّندالة عِوَض الحذاء. قُلتُ لها: "شكراً على تنبيهي". كتبت لي وصفة، ووضعت وضعتْ خاتمها عليها وعلى مطبوع التّعاضُديّة، المُعبّأ مِن قِبَلي، ووقّعتهما. قالت: "عُد يوم السّبت القادم، واجلب معك نتائج التحاليل".

 جاء السّبت وعدت إلى عيادة الطّبيبة. عملاً بنصيحتها، ألبس الآن صندالة عِوَض الحذاء. اشتريتُ ثلاث صنادل في هذه الأيّام الأخيرة، وتركتُ جانباً الأحذية التي تُضيّق على قدميّ.

تَصِل الدّكتورة ر.م. مُتأخّرة هذا الصّباح، وهذا ما لاحظه غيري مِن المنتظرين أيضاً. حين تدخُل، أخيراُ، يرتسم في نفسي انْطباع بكونها مُجهَدة. أُلاحظ أيضاً أنّ عينيها اختطفتا نظرة إليّ، وشعرتُ أنّها زمّتْ شفتيها إثر تلك النّظرة. في سِرّي، طرحتُ عليها سؤالاً لن تسمعه طبعاً: "ما لَكِ يا دكتورة؟ أشعر أنّك غير مُرتاحة تماماً لِمجيئي". وتذكّرتُ شحوبَها وقلقها بعد أن خرجتْ للحديث مع المُمَرّضة خلال زيارتي السّابقة... دون إرادة منّي، أتساءل: "تُرى هل كانتْ قبل مجيئها الآن في حِصّة شَحن مِن طرف موشكان ومَن معه؟"، ذلك أنّ ناصب الأحابيل يعلم أنّني في هذه العيادة طبعاً. أقول لنفسي: لا تسبِق الأحداث. انتظرْ وتَتبّعْ ما يقع.

تنادي الممرّضة على واحد من المنتظرين. أُخرج هاتفي المحمول وألعب مباراة شطرنج ضِدّ لاعِبٍ افتراضيّ متوسّط المستوى، فأربح، ثمّ ألعب أخرى ضِدّ لاعب افتراضي عالي المستوى فتنتهي بالتّعادُل. أعيد الهاتف إلى جيبي وأبقى ساكناً... لقد جلبتُ معي تخطيطاً سابقاً للقلب، ولم أنس كتابي الشِّعريّ افرنسيّ - العربيّ : "بَرْقٌ في غابة". هل ألعب مباراة شطرنج جديدة" لا، لم تَعُد لديّ الرّغبة في ذلك. لستُ قَلِقاً ولا مُرتاحاً. أنا هنا، وهذا كُلُّ شَيء.

ثمّ تحلّ اللحظة التي تناديني فيها المُمَرّضة. أتبعها بداخل الممرّ. تقول لي: "لا حاجة لإجراء تخطيط للقلب في هذه المرّة". وتندّ عنها بدايةُ ضحكة، ثُمّ تقول: "فحالة قلبك لا يمكن أن تكون قد تغيّرتْ خلال سبعة أيّام". أتّجه نحو مكتب الطّبيبة، حيثُ لا تزال معها المرأة التي استقبلتْها قبلي أنا. لكنّ هذه الأخيرة واقفة الآن لِتنصرف.

في هذه المرّة، تُشير إليّ الدّكتورة بأن أدخل. أُحيّيها وتُبدي لي التّرحاب. أجلس وتسألني عن الحال. أقول: "لا جديد. أموري هي كالمعهود". تحافظ على ابتسامتها لكنّ شيئاً من الارتباك في حركاتها بيّن بالنّسبة إليّ. أُخرج تخطيطاً لكهربيّة قلبي يعود إلى نحو ثلاثة أشهر أو أكثر قليلاً، وتخطيط الأسبوع الماضي أيضاً. في نفس الوقت أجتذب مجموعتي الشِّعريّة من مكمنها. أُناول الطّبيبة التخطيطين معاً. تأخذهما منّي، تتفحّصهما، تضعهما أمامها وتنظر نحوي. تُلاحظ أنّي وضعتُ مجموعتي الشّعريّة أمامي وفي متناولِها في نفس الوقت. تُرَكّز عليها نظره، فأقول لها: "ها هي بعض قصائدي بين دفّتي هذا الكتاب". تُمسك الكتاب. تفتحه، ثمّ تقول: "أين سأجد الوقت لقراءة الشِّعر؟". تسألني: "ما هي الموضوعات التي تتناولها في شِعرك؟" أُجيب: "ليست هنالك موضوعات مُحَدّدة". تقول هي بشكل مفاجئ: "المهمّ هو أَلّا تبدوَ مِن خلال شِعرك مُعارِضاً سيّاسيّاً... من الأحسن أن يعيش الإنسان مثل غيره من النّاس..." لا أندهش كثيراً ممّا قالت ولا أُعلّق على كلامها. ثمّ ها هي تقوم بحركة مفاجئة : تأخذ هاتفها المحمول وتلتقط صورا سريعة لأقسام من صفحات مختلفة. هي لا تُصَوّر صفحة كاملة أو قصيدة بتمامها، لكنها تُصَوّر كيفما اتّفق. قد تلتقط كاميرا هاتفها صُوراً لِسطور من صفحة وسطوراً أكثر أو أقلّ من صفحة أُخرى... إثر ذلك، تطرح هاتفها جانباً بِحركة سريعة، وتحني رأسها ثمّ ترفعه فوراً. على شفتيها ابتسامة شاحبة بعض الشّيء، كأنّ فيها اعتذاراً وكأنّها تقول لي: "أطلب منك أن تتفهّم". وفي الواقع، أنا لا أتفهّمها فحسب، بل إنّي أتعاطف معها. فقد أعطتْني فكرة عمّا كُلِّفَتْ به. فقد بيّنتْ لي أنّ هدفها لم يكن تصوير قصائد لتقرأها، ولا لِتُطلِع عليها شخصاً ما، بل لتبلغني، بطريقتها، بِأنّها مكلّفةمن طرف جهة لها نفوذ بأن تقوم بأشياء لا تُحبّذها هي كإنسانة...

ثمّ ضغطت على زرّ جانبيّ بهاتفها المحمول، وفهمتُ أنّها ستُسَجّل الآن ما ستقوله لي وأقوله لها. إنّها لا تُخْفي عنّي ما تقوم به. تسألني: "ماذا عن حياتك العائلية؟". "عازب"، أقول لا، وأبتسم. تقول: "تسكن وحدك؟"، فأجيب: "لا" وتُطلق العنان لبداية ضحكة مسموعة، لكنّها مُصطنعة... إثْر هذا، تُوقف عمليّة التّسجيل، وتضع هاتفها المحمول في دُرج، ثمّ ترفع رأسها، وتصدر عنها : "أوف" وجيزة. إنّها تتنفّس الصُّعَداء ولا شكّ، وتُريد أن تقول لي : "بالله عليك، لا تعد بعد اليوم إلى عيادتي". نصمت قليلاً. وعلى ملامحنا يتبدّى تفاهم غيرُ مُعلن، كأنّنا نُمثّل مسرحيّة بشكل تلقائيّثمّ تسحب نحوها مطبوعَ وصفة فارغاً، وتتناول القلم. وها هي المُمَرِّضة تُطِلّ علينا، وتُشير برأسِها للطّبيبة. تخرج هذه الأخيرة من مكتبها وأبقى أنا متأمّلاً في وضعي الغريب. هل أنهض الآن وأنصرف؟ هل أُغادر هذه العيادة دون أن أُفَسِّر لأحد لماذا قرّرتُ أن أُغادر؟ لا، لن أقوم بشيء من هذا القبيل، فالطّبيبة قد أسرّتْ لي بمكنون نفسِها: إنّها تُسايِر ناصب الأحابيل، لكنّها لا تُريد أن يَلحقني سوء. أو، على الأقلّ، لا تُريد أنْ تتسبّب لي هي في شيء سيّئ. لذا، سأبقى وأرى وأعيش بقيّة التّمثيليّة.

بعد نحو خمس دقائق، تعود الطّبيبة إلى مكتبها. وجهها كستْه غلالة من عدم الارتياح. سحنتها اصفرَّتْ قليلاً. الآن، هي لا تكتب شيئاً على مطبوع الوصفة الفارغ، بل تُمسك رأسها بين يديها لِلحظة، ثمّ تنهض وتقول لي: "تعالَ معي".

تمضي بي إلى غرفة الأرائك. نجلس. هي شاحبة ومتوتّرة بِشكل طفيف، وأنا أقول لنفسي : "خذ حذرك". تسألني : "هل تنهَج إذا تمشّيت لأكثر من نصف ساعة؟"، وقبل أن أُجيب، تقول لي: "سأكتب لك وصفة تتضمّن تحليلات ينبغي أن تجلب لي نتائجها، وبعد ذلك نرى إن كان يلزم أن أنجز لك فحصاً بالصّدى". تكتب رموز التّحليلات المطلوبة على مطبوع الوصفة. تُناولني الورقة دون أن تنظر إليّ بشكل مباشر. آخذها منها وأدخلها إلى محفظتي التي لا تفارقني. أمّا نسخة الدّيوان، فتركتُها لها على مكتبها، حتّى تتذكّر الشّخص الذي مثّلتْ معه مسرحيّة غريبة حقّاً...

تأخذني إلى الأريكة العالية. تطلب منّي أن أصعد إليها. هنالك مِرقاة بها درجات ثلاث، أرتقي الدّرجات ثمّ أجلس. تبدأ بِفحص ساقيّ. تقول إنّهما الآن أقلّ انتفاخاً. تَلمسهما بيدها. تضع السّمّاعة على ظهري. تطلب منّي أن أشهق ثُمّ أزفر مرّات مُتواليات. تصعد هي درجات المرقاة. تقف فوق الدّرجة العُليا مُباعِدةً رِجليها، تتقدّم قليلاً، تُصبح فخذي اليمنى بين فخذيها. أشعر بغرابة الموقف، بأنّ منطقة حسّاسة في جسدها تتحكّك بأعلى ركبتي. أُفَكّر: إنّها الآن تُمثّل مشهداً لتلتقطه كاميرا مُراقبة تُطِلّ علينا من زاوية ما. بَعدها، سيقف موشكان ومن معه على مشاهد حيّة تُثبت مدى اجتهاد الطّبيبة في استدراجي إلى القيام بفعل ما، وأنا لا أشعر تجاهها إلّا بودّ مَشوب بالاستغراب وبعض الانزعاج، ما دامت قد بيّنتْ لي أنّها مُكلّفة. ...

لِماذا تَقسر هي نفسها على لعب هذا الدّور الرّديء؟ " أجيب نفسي بسؤال آخر : "وهل هي الوحيدة التي انصاعت لتوجيهات موظّفي استخبارات ؟". على أيّ حال، فأنا لا أستطيع أن أُنكر أنّها لم تتكتّم كُلّيةً على المهمّة التي أُنيطتْ بها. لقد بيّنت لي الخفايا، فما الذي أريده أكثر مِن ذلك ؟...

ثمّّ نعود إلى مكانينا ونجلس. تقول لي هي: "إنّي أؤكّد على ضرورة التّحاليل، وبعدها أُجري لك فحصًا بالصّدى". إثر هذا، نهضتْ وبدأتْ مُجَدّداً تُنَقِّلُ سمّاعتها على ظهري، ثمّ فاجأتني بِأَن اندسّتْ إلى جانبي. فهمتُ أنّها تُولي الآن وجهها للكاميرا التي تُلتقط مشاهد هذا الفحص المثير. الكاميرا تلتقطني أنا أيضاً من أمام. أمسكتْ هي طرف سمّاعتها بِيُسْراها، ولفّت ذراعها حول عنقي، وضغطتْ رُكبتها وفخذها بِرُكبتي وفخذي، وابتسمتْ ابتسامة عريضة، ثمّ قالت: "والآن لنفحّص نبضات هذا القُلَيّب". وضعتْ كفّها على عنقي، وألصقتْ فخذها بِفخذي، فوضعتُ ذراعاً على ذراع بِحيثُ منعتُ أيّ حركة مِن يدها قد تكون أُمِرتْ بالقيام بها لاستثارتي. أمّا هي فقد ارتاحتْ للوضع الذي اتّخذْتُه. لقد أرحتُها من عناء الاستمرار في تلك المسرحيّة الرّديئة. مع هذا، فقد نظرتْ مليّاً إلى سحّاب بنطالي، مِن فجوة ضيّقة بين ذراعيّ، وانتظرتْ أن تلتقط الكاميرا المشهد... وما كان يتوقّعه موشكان اللئيم (ومن معه) هو أنّي، في تلك اللحظة، سأهتاج (جِنسيّاً)، وتنهض الطّبيبة فتتمشّى إلى الخلف، وأتبعها أنا نحو الأريكة الطّةيلة وعلامات الاهتياج بادية في اللقطات التي تُسجّلها الكاميرا المثبتة في زاوية ما، ثمّ يصدر صوت ما عن الطبيبة وتفتح الممرّضة الباب... وينكشف أمري، ويكون الفيديو جاهزاً. لكنّي بقيتُ منكمشاً على نفسي، ساخراً من السّيناريو كلّه، ومن موشكان اللئيم طبعاً.

بعد لحظة أزاحتْ ذراعها من فوق كتفيّ، ووقفت قُبالتي. وبدت لي مُحرَجة، لكنْ مرتاحة إلى كوننا قمنا بتمثيليّة لم ينجم عنها ما يسوء أيّاً منّا. قالت: "لا تنس أن تجلب نتائج التّحاليل في المرّة القادمة". ثمّ خرجَتْ مِن الغرفة.

أخذتُ وصفة التّحاليل ووضعتُها جنب التّخطيطين في الملفّ الطّبّي بمحفظتي، وخرجتُ بدوري مِنْ غرفة الأرائك. انعطفتُ يميناً. في تلك اللحظة، رأيْتُ الطّبيبة قادمة في اتّجاهي، وبرفقتها الممرّضة. الطّبيبة كانت قد مضت إلى صالة الاستقبال فيما يبدو، وها هي عائدة منها الآن. والمُمرّضة هي التي تتفرّس الآن في سحّاب بنطالي. أفهم أنّها تُريد التيقّن من أنّ الطّبيبة لم تُفلح فعلاً في تهييجي جنسيّاً. ليست الممرّضة إذن مُجَرَّد طرفٍ في المكيدة، بل يبدو أنّها هي المُشْرِفة على تنفيذها. إنّها تُريد أن تتيقّن مِن مدى إخلاص الطّبيبة في أداء مُهِمّتها. تَمرُّ الطّبيبة قريباً منّي، مُطأطئةً رأسَها ومتثَنّية في مشيتها، كأنّها خَجلى من كونها كَشَفتْ عن "رغبتها" فيّ. أُدرك أنّ تمثيليّتها هاته مُوَجّهة إلى المُمَرّضة، لا لي أنا. أمضي صوب الكونتوار الصّغير، وأأؤدّي ما عليّ. تقول لي هي: "هنالك أمر مهمّ جِدّاً، يجب أن أُخبرك به: عليك أن تعود في أقرب وقت، ومعك نتائج التحليلات المطلوبة حتّى تجريَ لك الدّكتورة فحوصاً مُعَمَّقة. هذا ما قالتْه لي. حاول أن تعود بعد عشرة أيّام في أَقصى تقدير. كان هنالك شَخصٌ في مثل وضعك ولم يَحْرص على متابعة العِلاج، وفي أحد الأيّام، انسدّت شرايين قلبه الثلاثة في آن، فأُجْرِيَت له عمليّة جراحية وهو في حال خطيرة جِدّاً... ". قلت لها: "كيف يبقى حيّاً إذا انْسَدَّتْ شرايين قلبه كُلِّها؟" أجابتْ دون تردّد: "لقد بَقيَ حَيّاً". فكّرت: "يا للكذبة العجيبة". وَضَحكتُ في سِرّي. ثمّ خرجتُ من العيادة.

***

 ثمّ حلّتْ فترة هدنة، فموظّف الاستعلامات المذكور ومن معه أصبحوا ينتظرون أن أعود في أقرب وقت إلى عيادة تلك الطّبيبة.

يحسب ذلك الموظّف النّذل أنّهُ ذو ثقافة عالية في مجال السّيكولوجيا، ويتّبع معي الآن أساليب جديدة، يُريدُها أن تكون مُرْهَفةً في الظّاهر، وفعّالة بالخصوص، أساليبَ يعتبرها كفيلة بِجَعْلي أعود إلى عيادة تلك الطّبيبة. إنّه يحسبها مخلصة كُلّيّاً في تواطؤها معه.

أنزل الآن رصيفاً شِبْه فارغ من بني آدم. أرى كلاباً ثلاثة تَخِبّ على أرضيّة الرّصيف، على بُعد نحو ثلاثين متراً منّي. إنّها قادمةً في اتّجاهي. لكنّها تتوقّف وتنحرف في سيرها، فستقطع الشّارع نحو الرّصيف الآخر.

أنعطف يساراً، إلى الشّارع الذي يوجد به مقهى وَلِيلي. يمرّ بِجانبي شخص قصير ذو شَعْرٍ أبيض. لقد جاء مِن ورائي، وتجاوزني بمشية سريعة، ثمّ دلف إلى شارع جانبيّ فاختفي للحظات، وبعدها رأيتُه عائداً صوبي، حاملاً في يده كيساً أبيض شفّافاً به لِتر من الحليب. يُلقي إلى قدميّ نظرة شِبه ساخرة، يبرم شفتيه مستغرباً، ويُتابع طريقه. ما المفروض أن أفهم مِن هذا؟ أنّ هذا الرّجل يسخر مِن مشيتي البطيئة، بل ويستنكر البطء الذي أتحرّك به. ما العملُ، إذن، كيْ لا أتلقّى نظرات استنكار مثل هاته؟ "عليك أن تستمرّ في العلاج، فسارِعْ إلى عيادة الطّبيبة"، يهمس لي شَبَحُ موشكان النّذل...

هذه ليستْ المرّة الأُولى التي يتجاوزني فيها شخص مسرعاً، ثمّ بعود فينظر إليّ، إمّا ساخِراً أو مُستنكراً. إنّه لأمر مُثير بالتّأكيد. فهل أنا الآن أتمشّى دونما دافع لأنْ أَغُذّ السَّير، أَم تُراني مُشاركاً في سِباق الألف متر أو في ماراتون ما؟

في مساء الأمس، حدث أمرٌ أكثر غرابة من هذا. ففيما كنتُ أتمشّى قريباً من مسكني، جاء من خلفي طفل في نحو الثّانية عشرة، وبعد أن تجاوزني وبقي ينظر إلى قدميّ عدّة ثوان، ركض بسرعة كبيرة، وتوقّف جنب شجرة، شَرَع في القفز نحو فروعها واقتلاع أوراق منها... بالطّبع، فهو مُرسَل، واستخبارات حيّنا تُشَغّل أطفالاص وفتيات طبعاً. لقد كان مُفترَضاً أنْ أفهم ممّا قام به الطّفل أنّ تلك الدّكتورة يُمكنها أن تجعلني قادراً على الجَري بِمثل سرعته، والقفز بِنفسِ خِفّته. هل يُمكن ألّا أضحك في سِرّي في مثل هذه الحالة ؟

في لحظة أُخرى، تقترب منّي شابّة، وأتباطأ لأتيح لها إمكانية المرور مِن أمامي بارتياح. هي تلبس جاكيتة وتنّورة ورديّتان غامقتان، وشَعرُها الأشقر ينسدل على كتفيها. تعلو عينيها أهداب كثيفة وطويلة، لا شكّ أنّها اصطناعيّة. تُطيل فِيّ النّظر، ويَلوح على شفتيها طيفُ ابتسامة. تُزيح عينيها، وعلى الفور تُعاوِد النّظر إلى عينيّ. إنّها تُبْدي لي إعجابها. وهذا يستثير ضحكي. أفهم أنّها مُكَلّفة بأداء هذا الدّور. ما الهدف المُتوخّى من ذلك؟ أنْ أقول لِنفسي: انظُر يا هذا بأيّ إعجاب تنظر إليك هذه الشّابّة الأنيقة الرّقيقة الجميلة؟ ألا تقرأ الرّغبة في نظراتها؟ إذن فَلِم لا يبدو لك طبيعيّاً أن تكون الطّبيبة قد رغبت فيك أيضاً؟ لا تتأخّرْ في زيارة الطّبيبة المشتاقة لِطلعتك البهيّة! أضحك في سِرّي مُجَدَّداً.

خلال مساء آخر، أتوجّه صوب مقهى. يقف في طريقي شخص يعمل حارس سيّارات. إنّه في متناول موشكان ومن معه وهو يُنفّذأوامرهم. إنّه ينظر إليّ ولا يُشيح ببصره بسرعة. ينتظر إليّ ويبتسم في وجهي، ويسألني عن الصّحّة، فنحن نتعارف. نتبادل عبارات مُجاملة. يخفض بصره ويُوَجّه عينيه إلى قدميّ. يتفرّس في الصّندالة العُنّابية اللون التي ألبس. يَرفع رأسه ويقول لي: "أيّيه، لقداستفدتُ منك الآن. سأشتري أنا أيضاً صندالة. إنّها مُريحة للقدمين أكثر من الحذاء...". أقول له: "إنّك مُحِقّ". بالطّبع، فالهدف هو تذكيري بأنّ تلك الطّبيبة هي التي نصحتني بلبس الصّندالة عِوض الحذاء (والواقع أنّ طبيبتين أخريين وطبيباً قبلها كانوا قد قدّموا لي نفس النّصيحة).

في مساء آخر، أقضي لحطات في مقهى، مستمتعاً بالصّمت والهدوء. أُحاول ألّا أُفكّرَ في شيء. الوقت ينساب كمياه نهر هادئ وبلا خَرير... ثمّ تتوقّف ثلاث نساء أنيقات، يلبسن جلّابيّات مكويّات بعناية. يَظهر على النّساء الثّلاث أنّهنّ ربّات عائلات محترمات. يَتقدّمن نحوي. ثمّ تتوقّف اثنتان، وتدنو منّي أكبرهنّ سِنّاً. هي في أوائل الكهولة، لكنّ بشرة وجهها بلا غضون. تقول لي: "اسمحْ لَنا يا سيّدي، نحن متطوّعات نَجمع تَبرّعات لسيّدة مسكينة مريضة جِدّاً...". تقول إحدى مُرافقتَيْها، بصوت مُرْتفع بعض الشّيء: "ستُجرَى لها عمليّة جِراحيّة. عندها انسداد في شرايين القلب". تقول الأُخرى: "المسكينة أهملتْ نفسها. كانت لا تتّبع العلاجات اللّازمة". فهمتُ أنّني أمام مسرحيّة، وشعرتُ بالحَنَق وبالرّغبة في السّخرية، بطريقة ما، من النّسوة الثّلاث، لكنّي اكتفيتُ بأن قُلتُ لهنّ: "لا، ليس لديّ ما أساعِد به تلك المرأة المسكينة". نظرتْ إليّ أكبرُهنّ سِنّاً نظرة لَوم، كأنّها تريد أن تقول لي: "للأسف، أَمَّلْنا فيك خيراً، ولكنْ...". إثر ذلك انصرفْن.

الهدف مِن مسرحيّتهنّ بَيّن: أن آخذ العبرة مِمّا أصبحت عليه تلك المريضة المزعومة، وَأعود إلى عيادة تلك العيادة.

ةتتوالى أحداث مِن هذا القبيل : فها أقترب من ممرّ جانبيّ. مدخله مُبَلّل بمياه تعلوها فُقاعات صابون. وإذا بامرأة في نحو الخامسة والثّلاثين تنبثق من ذلك الممرّ، ةمعها طفل تُمسك بِيَده. كانت مليحة التقاسيم، أَمْيَل إلى الطّول، متناسقة الجسد، تتثنّى في مشيتها وتتمايس. وإذ رأيتُها، فكّرتُ أنّ ظهورَها في تلك اللحظة قد لا يكون من باب الصُّدفة، وبقيتُ مُتَرقّباً، فإذا بها تخفض بصرها وتُوَجّه عينيها نحو الصّندالة التي ألبس في قدميّ، فتتملّاها لِثَوانِ، ثُمّ ترفع رأسها وتنظر إلى وجهي باهتمام. بعدها، تُنزل عينيها نحو سَجّاب بنطالي. تُحدّق وتُحَدِّق. ثمّ تَخطف نظرة أخيرة إلى وجهي، قبل أن تتجاوزني وتُتابع طريقه، وعلى شفتيها طَيفُ ابتسامة. ماذا عليّ أنْ أفهم مِن حركاتها ونظراتها، بحسب رغبة موشكان النّذل؟ أنّها أُعْجِبتْ بصندالتي وبي واشتهتْني جِنْسِيّاً. وماذا ينبغي أنْ أستنتج من ذلك؟ أنّ الطّبيبة أَسْدتْ إليّ جميلاً حين نصحتني بلبس الصّندالة، وأنّها كانتْ معذورة حين أبْدت رغبتها فيّ، وأنّ عليّ، باعتبار كلِّ هذا، أنْ أمضي إلى عيادتها بلا تأخّر لتلقّي العلاج والحُبّ في آن!

في لحظة مُوالية : أقترب من باب العمارة حيثُ أَسكن. أسير على مهل. هنالك شخص قادم في اتّجاهي. إنّه يسكن في طابق عُلْويّ من هذه العمارة نفسها. رجل قصير، في نحو الخمسين، ذو لحية تمازج فيها السّواد والبياض، على رأسه عمامة، ويلبس جلّابية خضراء... يقترب الآن من الباب، حاملاً في يده ظرفاً بريديّاً أبيض مستطيلاً. يدخل وأتبعه أنا. يَسير أمامي خطوة، خطوتين، ثلاثاً، ويُسْقِط الظّرف مِنْ يَده. ينحني على الظّرف ويلتقطه. يلتفت نحوي. يبتسم ويُلَوِّح في اتّجاهي بالظّرف ثمّ يقول: "فيه نتائج التّحليلات. أنا أتلقّى علاجات لا بدّ منها". أبتسم. أكاد أضحك. ينتظر منّي أن أقول شيئاً، لكنّي لا أفعل. يلتفت ويُولِيني ظهره. بعدها ينعطف صَوْبَ السّلالم، ويبدأ في الصّعود.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لقراءة تلك القِصّة كاملة :  مكائد موشكان في عيادة طبّية

ملاحظة : القِصّة أعلاه والقصّة التي أُحيل عليها من خلال الرّابط واقعيّتان.