اليوم أَحكي لكم حِكاية العُكّاز، وهي لا تخلو من طرافة !
ومنطلقها أنّه حدث، ذات يوم، التواء لساق رِجلي اليُمنى، فاضطُرِرت إلى استعمال عكّاز. لكنْ، قبل أن يحدث ذلك الالتواء، كان موشكان وتابعه اسْعَيَّد يشحنان أحياناً مجانين مُزِيّفين ليُزعجوني ويُضايقوني في بعض أزقّة سلا الجديدة... فلمّا التوى كاحلي وبدأتُ أتوكّأ على العكّاز المعلوم، أصبح أولئك "المجانين" يخافون مِن أن أستعمله لضرب مَن يُهاجمني مِن بينهم، وهكذا أصبح الواحد منهم، إذا قام بِخطوة في اتّجاهي ورأى العُكّاز، يتَراجع ويُسارع إلى الاختفاء...
ولم يَحتمل موشكان انهزام فيلق مجانينه المزيّفين العاملين بسلا الجديدة، فارتفعت درجة حرارة ذهنه واستبدّت الحمّى بِعقله الغبيّ، ودخل في حال من الهذيان جعلته يعتمد أساليب غريبة ظنّ أنّها ستجعلني أتخلّى عن العُكّاز، وأغلب تلك الأساليب مُضحك.
فإِثر اعتمادي العكّاز، كنتُ مارّاً بمشارف مقهى يجلس فيه اسعيدان (أو اسْعَيَّد)، تابع موشكان، وكان معه في تلك اللحظة شخص آ خر من استعلامات سلا الجديدة، فقال اسعيدان لجليسه بصوت أرادني أن أسمعه: "واشْ شَفْتِيه داير العُكّاز، راه ما عندو حتّى مُشكل وداير العُكّاز..." أثار ما سمعتُ اشمئزازي وفكّرت : "كيف يُبيح هذا الشّخص لنفسه أن ينزر إلى هذا المستوى؟". وأضفتُ فِي سِرِّي، بشكل تلقائيّ : "انظُر إلى الجاهل عديم الشّخصيّة حين يشعر أنّ لديه "سلطةً" ما، وأنّ له حشداً، من مجانين مزيّفين وبعض العاطلين وأشباههم والتلميذات الصغيرات والتلاميذ... يتّبعون "توجيهاته" الشريرة الغبيّة، التي هي في الواقع توجيهات موشكان المُعَقَّد ومن معه" !
في مساء اليوم المُوالي، فيما كنتُ أَسير صوب مَدخلِ ممرٍّ ضَيّق يؤدّي إلى العمارة التي أقطن بها، وكان عُكّازي في يَدي، بدتْ لي امرأة في نحو الخامسة والخمسين تخرج من ذلك الممرّ، قاصدة أحد الدّكاكين، وستمرّ إذن بمحاذاتي. كنتُ أعرف تلك المرأة من بعيد وكثيراً ما أراها، فهي تقطن غير بعيد عن مكان سُكناي، ولها ابْنٌ استعلاماتيّ. حتّى هذا الحدّ، يبدو كلّ شيء عاديّاً. لكنّ ما فاجأني هو أنّ تلك المرأة، إذ اقتربتْ منّي، نظرتْ إلى العُكّاز ورفعت عينيها ثمّ عاودت النّظر إليه، وتَصَنَّعَت الخوف وابتعدت عن طريقي بِشَكْلٍ تمثيليّ. يا له مِن أمر غريب وعجيب! قُلتُ في نفسي. خطوتُ نحوَ مدخل الممرّ، فلاحظتُ أنّ هنالك سيّارَةَ دفعٍ رُباعيّ واقفة إلى يميني، وقد استند إليها شَخص متين البنيان. دخلتُ إلى الممرّ، فجاء رَجلان مِنْ خلفي، ثمّ حَاذَياني. كان أحدُهما قصيراً والآخرُ طويلاً. التفتَ إليّ القصير وقال لي: "الله يِجِيبْ الشِّفاء"، قلتُ أنا: "آمين، شُكراً". قال الطّويل مُسْتَنْكِراً: "وماذا بِه حتّى تَطلبَ له الشِّفاء؟ هو لا يُعاني من أيّ شيء". استغربتُ ممّا سمعت، فالشّخص الطّويل أراد أن يقول إنّي لستُ مُصاباً بِشيء يُطلَبُ الشّفاء منه. أدركتُ أنّ الشّخصين هما من الحضد الذي يُوجّهه موشكان . أكملتُ سَيْري. وإذْ وصلتُ إلى نهاية الممرّ، وقبل أن أنعطف يَميناً، التفتتُ إلى الخلف، فبدا لي الشّخص المستند بِظهره إلى السيّارة الرّباعيّة الدَّفع مُحَدّقاً إليّ بنظرة فيها استنكار. قلتُ في سِرّي: "ها هو غباء موشكان المأفون يتجلّى مِن جديد، فهذا الشّخص يريد أن يوحي إليّ بأنّه من الشّرطة، وأنّه واقف وقفتَه تلك قصدَ حماية المرأة المسكينة التي مرّت بجانبي قبل لحظة وأبدتْ تخوّفها مِن العُكّاز؟"... إنّها لتمثيليّة مُثيرة للسّخريّة في الواقع.
في صباح اليوم المُوالي، أخذْتُ عُكّازي وخرجتُ في نَحو العاشرة. انعطفتُ يساراً وسِرْت في الممرّ الذي عِشتُ فيه كوميديا البارحة، والذي سيُفضي بي إلى شارع خلف مسكني. فما إنْ وصلتُ إلى نهاية ذلك الممرّ، حتّى بدا لي مجنون مُزَيّف واقفاً، غير بعيد عنّي، ومعه شخص آخر، أراه يتسكّع أحياناً في شوارع الحيّ، وبقربه كهلٌ مُخبر، يشتغل حمّالاً أحياناً....
الذي حدث إثر خروجي مِن الممرّ هو أنّ "المجنون" المُزوّر، ذا الأسمال المُتّسخة، ما إن رأى العُكّاز في يَدي حتّى أحنى رأسه واستدار ومضى مُبتعِداً. وَبَقي الكهل في مكانه، مُتظاهراً بأنْ لا علاقة له بالمجنون المُنسحب... لكنّه، بعد ثوانٍ، انسلّ بدوره وقطع الشّارع وابتعد. كان واضِحاً أنّ ناسج خيوط تمثيليّة المساء الفارط ظنّ أَنَني سأتأثّر بمسرحية الأمس السّخيفة وأتخلّى عن العُكّاز، ولذا فالمجنون المُزَيَّف ورفيقه كانا يتوقّعان أنْ يَرياني خارجاً مِِن الممرّ وأنا "أعزل"، ووقتَها ينبري لي المجنون، وقد يكيل بعض الشّتائم لِشَخصي، أمّا الكهل الذي كان واقفاً قربه، فقد رُسِم له الدّور التّالي: إذا ما بدأتُ أنا أشتمُ "المجنون" بِدَوري، فسيكون عليه هو أن يبدأ في رفع صوته بعبارات "نُصْح" يتوجّه بها إليّ، تكون مِن قَبيل: "ألا ترى أنّه مريض"، "قُل الله يستر"، "عليك أن تُساعِده لا أن تشتمه"، "اللي ما خْرَجْ من الدّنيا ما خرج من عْقَايْبها"... فذلك المخبر يُحسِن أيضاً دور "كاري حنكو"...
ما تلا ذلك هو أعاجيب يتجلّى فيها بوضوح تحامق موشكان الذي يرى فيه هو ذكاء.
هكذا، أصبحتُ أجد في طريقي أشخاصاً ينظرون إلى العُكّاز باستغراب مُفتعل، كأَنّهم رأوا شخصاً يتّوكّأ على مدفع هاون أو يَجرّ خلفه زرافة! هكذا أوقفني شخص يُدعى عبد الله، ويبدو في العادة وقوراً، وقال لي بلا تردّد: "يا أستاذ، أتمنّى أن تكون بخير... لماذا لا تتخلّص على الفور مِن هذا العُكّاز الذي لا يُلائمك، فأنت والحمد للّه في عِزّ شبابك"، فضحكتُ ولم أُجِبه. وقام غيره بمبادرات مُضحكة مماثلة. فمرّة كنتُ عائداً إلى بيتي، وبيدي عكّازي، وكان شُرطِيٌّ، أعرفه مِن بعيد، قادماً في الاتّجاه المُعاكس لاتّجاهي، وكان مُرتدياً بِزّته. رغم أنّنا كنّا نتعارف قليلاً، فلم نكن نتبادل سوى كلمة واحدة على سبيل التّحيّة، ينطقها كُلٌّ منّا بِصوت خافت. هذه الكلمة هي "لاباسْ". في هذه المرّة، لَم يقُل أيٌّ منّا شيئاً، بل إنّ الشّرطي، حين اقترب منّي، نظر إلى العُكّاز وابتعد عن طريقي قليلاً وعلى شفتيه ابتسامة، وعلى الفور نظرتُ أنا إلى مسدّسه المُغمَد في جِرابه وانزَحتُ مبتعداً عنه ومبتسماً بِدوري، ثمّ ضحكنا في آن واحد، وتابع كلّ منّا طريقه... ومرّةً، أوقفني أحدُهم وأبدى رغبته في أَنْ يُملي عليّ لائحة أعشاب يُغنيني تناوُلُها عن العُكّاز... لكنّ عُكّازي بقي مُلازماً لي إلى أنْ شُفِيَتْ ساقي، فركنتُه في زاوية بِبيتي، حيثُ تركتُه يقضي أيّام تقاعده هانئاً مُستريحاً !