في مجموعة عبد اللطيف اللعبي "مغامرات حالم مُكَرَّس" (2008)*، يَتمّ اعتماد عُدّة غنيّة بتنوّعها في بناء القصيدة: الذّاكرة، السّخرية المَرِحة، الفكاهة شبه السّوداء، التأمّل المبنيّ على إدراك اللحظة أو الظّاهرة أو المشهد أو المُعْطَى الموضوعيّ العامّ من خلال آليات تصويريّة، استرجاعيّة، سَرديّة، ذِهنيّة…تتشكّل المجموعة من قسمين كبيرين: ‘الكتاب الأول’، و’الكتاب الثاني. يتكون الكتاب الأول، بدوره، من أقسام صغرى، كل منها يتضمّن عدداً من القصائد. أول هذه الأقسام يحمل عنوان: طاولة ممسوحة، صغيرة. يبدو نعت "صغيرة "، هنا، كإشارة لا تخلو من بعض التفكه إلى أن مسح الطاولة لا يحمل لدى الشاعر المعنى الذي اعتمد به في الفلسفة الديكارتية. وبالفعل، فإن بعضاً مما تتوخّاه الذات الشاعرة هو استقصاء "دوار اللانهائي/ مدى جسامة الألم/ عواصف الحُبّ المعاكسة…". ولأنّ هذا الاستقصاء شعريّ الطابع، فهو نسبيّ المحصَّل، قابل للاغتناء، يعتمد الكلمات، وفي كل مرّة، يشحنها بطاقة متجددة : "في المادة السوداء/ للكلمات/ يحتفظ السِّريّ/ بسرّه". في هذا النطاق، لا يتردّد الشّاعر في تعنيف نفســه بعض الشيء، بسبب احتمال عدم معاملتها للكلمة بما يلزم مــــن لياقة ولباقة، فهذه الأخيرة (الكلمة) هي، حسب الشّاعر، "طائر منتوف الريش"، تَجدر ملامسته بحدب، وليس "إدخاله إلى المعدة/ وكتم الأصوات النّاجمة/ عن الازدراد…". إنّ الذّات الشاعرة هي، طبعا، "مجرّد جسد/ له رأس/ ومستتبَعاته"، وقد يحدث أن تَحُدّ منطقة ما في هذا الجسد من الغلواء الميتافيزيقية للرأس، كما يظهر من خلال قصيدة مكتوبة بروح فَكهة، نعلم من مطلعها أنّ ما سيُسْرَد علينا ليس "بالقصة الصاخبة"… بعدها، نجد أنفسنا إزاء رجل – يبدو أنه الشّاعر نفسه، بذاته المجسّمة أو المتخيَّلة – يستيقظ في يوم ما، فلا يعود يعرف شيئاً عن شخصه أو عن زمان ومكان وجوده أو لغته… ، لكنّه لا يرتعب، وإنما تستبدّ به الرّغبة في البقاء على حاله الجديدة لزمن طويل، بل وبصورة نهائية إن أمكن. ثم تنحلّ عقدة القصة، بمفـعول ‘حاجة ملحّة’، وتكون العبرة المستخلصة هي التالية: "أيتها المثانة، كم أنت عدوة للميتافيزيقا!"، هذه العبارة تُحاكي، بسخريّة مَرِحة ، قولة نيوتن: "أيتها الطّبيعة، كم أنت معادية للميتافيزيقا". هذا النّزوع إلى السّخرية – التي قد تكون مُبَطّنة، أيضا، بأسىً مكتوم، تعلّمت الذّات كيف تجالده- نجده في قصائد أخرى يتوجّه فيها الشاعر إلى نفسه، جاعلاً هذه الأخيرة موضوعاً للسَّبر، الأمـر الذي يُفضي إلى التساؤل عن الهُويّة، وعـن الزَّمـن والذّاكـــــرة والصّيرورة… لنقرأ: "ها أنت تقف، تتمشّى قليلاً لتتأكَّد أنّك ما تزال أنتَ، أي ذلك الكائن الذي يمشي على قدمين، القَصير القامة، الذي تقوَّس ظهرُه منذ وقت، بذراعيه اللتين تَنُوسان إلى جانبيه- هو الذي تبدو له الأذرع ضرباً من النّشاز، فكأنها، عند الآخرين، قد أضيفت إلى الأجساد- ورأسِه، رأس كائن في طفرة، ما بين العصفور والحصان، بِفمه المحكَم الإغلاق، فليس ينفتح إلّا حين تتحرك الأصابع فوق الصفحة، بتاريخه الذي كان عاصفاً فيما مضى، وآل إلى سُكونٍ مُتصاعد الرّتابة… إنّ هُوية مثل هاته تبعث فيك القلق إذ تشعر أنّها تنزاح وتبتعد عنك. فكيف يمكن أن تكون في نفس الوقت هذا وذاك؟.."
في عدد من قصائد "الكتاب الأول" من المجموعة، تتمّ مساءلة شِعرية للذّات وللآخر تتعلّق بخصوصيّات وضع إنسان عَصرنا. تتّخذ واحدة من هذه القصائد تيمةً لها رِدّةَ فعلِ شخصٍ ما، يمكن أن يكون الشاعر أو غيره، إزاء الصُّوَر الشّاهدة على القتــل والدّمار، التي تعرضها علينا قنوات التّلفزيون كلّ يوم. "إنّه وقت العشاء/ ها هي الصور المعلن أنها لا تحتمل/ ينتقل المرء بناظريه إلى وجهة أخرى… وإذ تنتهي الوجبة/ يحدث أن يتساءل/عما إذا لم يكن قد أكل لحم مثيله/ وبتدقيق أكبر/ لحم أطفاله…". ثمّ ما الذي يحدث، بعدها؟ يتم الإعلان عن عرض "مباراة في كرة القدم"، أو "شريط جديد"، فيـُقـصى من الذهن ما كان "يعكر الصَّفو" وأصبح، فجأة، مجرّد "هواجس صغيرة" !. فهل دخل الرُّعب الذي يزخر به جحيم زماننا فـي حيّز المألوف والقابل للاحتمال؟ هل أصبحت مشاهد الدّم البشريّ المُراق معتادة، روتينيّة، في حياتنا اليومية؟.. هذا لا يؤدّي، طبعا، إلى استقالة جماعية من الأمل- الحلم. فـ"الحالمون" لن يَرغبوا في أن يتغيّروا، ولا يمكنهم ذلك على أيّ حــال. إنّهم ليسوا في حاجة إلى الكثير. "ما يحتاجونه هو، فحسب، قليل من الماء/ وشعاع شمس/ وكسرة خبز/ ساخنة إن أمكـن/ وأن تكون قد تناهت إلى آذانهم ولو لمرة واحدة/ ولو في حياة سابقة / النّبرات التي تنضَح بالحُبّ / في أيّ من اللغـات… ". وهم بيننا "أكثر عدداً مما نظنّ"… "الكتاب الثّاني" يتضمن قصائد تندرج تحت عنوان عامّ: "مغامرات حالم مُكَرَّس"، وهو، أيضاً، عنوان المجموعة ككلّ. ليست "المغامرات" هنا بالبطوليّة، فهي عبارة عن أحداث يعيشها الشّاعر العائد إلى وطنه لفترة، لها فرادتها بالنسبة إليه، وقد تتخلّلها منغصات وشيء من النّكد. أولى قصائد هذا القسم الثاني تصف لنا وصول الشاعر إلى الرّباط، وآخرها هي عن عودته إلى باريس. تبتدئ القصيدة الأولى كما يلي: "الرّباط/ ها أنت تغادر المطار / وفَوراً، تتصرّف مثل البعض ممّن يحلو لك/ أن تضحك من سلوكهم / ترغب في مكالمة زوجتك/… /تقول إنّ الشمس مُشرقة/ حتى قبل أن ترفع عينيك إلى السّمــاء…" . مرّة أخرى، نجد أنفسنا إزاء تباعد عن الذات، مبطّن بسخرية تشحذُ الحسّ النقدي والقدرة على التقاط الجزئيّات الصغيرة… نتتبّع "مغامرات" الشّاعر المختلفة في بلده الأصلي. فهنا يلتقي صديقاً قديمـاً، وتحضر الذّكرى وتتبادل مع المعيش إضاءات تكتسب معها اللحظة كثافة تعمل القصيدة على تجسيدها، وهناك يَجد نفسه أمام بيت كان قد أقام به قبل سنوات عديدة، ومنه اقتيد إلى التّعذيب، فالسّجن… للسّرد، في هذه المجموعة، حُضور قَويّ. ففي قصيدة "الشّـارد، والأكثر شروداً"، مثلا، يتبدّى لنا السّارد - ويمكننا أن نتحدث عن سارد في الكثير من قصائد المجموعة- رفقة صديق، شاعر أيضاً. قصـد التّحادث بارتياح، يمضيان إلى أحد المقاهي. نُدرك أنّ "الأحداث" تدور في مدينة وجدة. ما إن يُفصح الصّديقان لواحد من النُّدل عن طلباتهما حتى ينشب شجار بين نـادل آخر وأحد الزبائن. يتدخّل بعض الحاضرين للحيلولة دون التّطورات الدّرامية الممكنة للمشهد. "في تلك الأثناء/ تكون قهوتك قد أصبحت فاتــرة وبلا طعم/ مثلما كأس الماء التي تغمس فيها شفتيك/ لذا، في هذه المرة / لا تبادر إلى تسديد الحساب… ". يُغــادر السارد وصديقه المقهى. لكنّ هذا الأخير لم يعد يتذكّر أين ترك سيّارته، لذا يقتاد صاحبَنا في طواف طويل يمتدّ لما يربو على الرّبع ساعة، عبر"أزقّة لم تعد، فجأة، تبعث على الاطمئنان" ! وبشكل تلقائيّ، يتمّ في ذهن السارد الرّبط بين هذا الضياع وبين شروده هو لحظة تسديد الحساب. لذا يبدو له أنّ رفيقه "كأنّما، بلسان حاله، يريد أن يقول / ها هو الشّارد قد التقى / بمن هو أكثر منه / شرودا" ! أشير، أيضا، إلى أن المجموعة لا تزخر بالصُّوَر ذات الطابع الحُلمي، لكنّها، بالمقابل، لا تخلو من قصائد تتضمّن سرداً لأحلام، تُخيّم عليه أجواء فكاهة شبه سوداء. ففي قصيدة "الحقيبة"، مثلاً، يتوجّه الشّاعر إلى نفسـه، في المطلع، بالصّورة التّاليــة: "عشيّة سَفرك / تفتح حقيبتك لتضع فيها، بدءاً / الأشياء التي يُحتمل أن تسهو عنها …"، لكنّه يكتشف أنّ هذه الحقيبة مُمتلئة، سَلفاً، بأشياء متنافرة: "كيس يحتوي على كريّات زجاجية / جلّابيّة أبيك القديمـــــة / وهي كل ما ورثت منه من متاع / قارورة العسل / المماثلــــة لتلك التي انكسرت يوما ما / في حقيــبة أخرى، خلال سفرة إلى إسبانيا… "، وإضافة إلى كلّ هذا، هنالك، أيضــا، "جُبّة الرّاهب التي كنتَ قد ارتديت / لتلعب دورك / في مسرحية "بنادق الأمّ كَرَارْ…" يبدو لنا الأمر على جانب من الغرائبية، ثم يصل إلى أوج غرائبيتـــه حين نقرأ أنّ مِن بين ما يوجد في هــذه الحقيبة، هنالك، أيضاً… "قائمتا الطّائر الأوحد" الذي قام الشّاعر بذبحه في حياته (ذات يوم بعيد من زمن مضى) ! .. بعدها، سنكتشف أنّ الأمر يتعلق بِحلم، إذ، في النّهاية، يفتح صاحبنا عينـا، ويُدرك أن الفجر لم يَحُلَّ بعد بضوئه الغائم، "ليُبدِّد الوحوش"...
ـــــــــــــــــــ
Tribulations d'un rêveur attitré *
Editions de La Différence (2008)