إفريقيا - محمّد خير الدّين

  ترجمة وتقديم : مبارك وساط

  

 من مظاهر فَنّ الكتابة لدى الكاتب الفرنكوفونيّ المغربيّ محمّد خير الدّين (1941 ـ 1995)، تمرُّدُه على الفصْلِ بين الأجناس الأدبيّة، وعلى الحدود التي تقامُ عادة بين الواقع والحلم والهلوسة والاستيهام... ممّا يُؤدّي إلى كون رواياته نفسِها (أو بعضها، على الأقلّ) تجمع بين المسرح والشّعر والسّرد الواقعيّ والحُلميّ والعجائبي والأوتوبيوغرافي، وقد تتلاقى فيها شخصيات من التاريخ بأخرى مُتخيَّلة أو فِعلية حتّى، معاصرة أو منتمية إلى ماضٍ قريب، بل وقد تكون من عالم الحيوانات نفسِه، علما بأنّ شخصيّة خير الدّين نفسها كثيرا ما تتحيّن الفرص للظهور، بصورة أو بأخرى، على مسرح الأحداث في العديد من تلك الروايات...

تتميّز كتابة خير الدّين بغناها المُدهش بالصّور الفريدة، غير المتوقّعة بل والشّديدة الغرابة أحيانا، وهي تبدو وكأنّها تدْهَم صاحبَها من حيثُ لا يَعلم. فالدّيناميّة الحُلميّة لديه هي دائما في أقصى زخمها، ويَحدثُ أن يمنح الحرّيّة لليد في ممارسة الكتابة الآليّة، وأن يستلذّ اللعب بالكلمات، بلْ وخلقَ كلمات جديدة (في أحيان نادرة)... وتأثير رامبو على كاتبنا واضح، وقد كان يحفظُ مجموع آثاره الشّعريّة عن ظهر قلب، ويعتبر شعرَه «نارًا ممزوجة بالدّم». كما أنّ للسّورّياليّة حضورها الأساسيّ في ثقافة خير الدّين، فمن بين قصائد مجموعته "شمس عنكبوتيّة"، هنالك واحدة في رثاء أندري بريتون، هي "رفضُ الدَّفن". والشاعر بريتون كان، في زمنه، المنظّر الأكبر للسّوريالية. ومعلوم أنّ هذه الأخيرة كانتْ حركة تجديدية تمسّكتْ بحرّية الخيال وبالحُرّيّة على العُموم، وكانتْ، بصفة عامّة، قريبة من الحركات اليساريّة. وقد كان لها، طبعا، مُعادون، وصلتْ ببعضهمْ الضَّغينة حدّ القول، إثر وفاة بريتون، بأنّ السّوريالية « ماتتْ رفقة أندري بريتون، بعد احتضار طويل...». ممّا نقرؤه في قصيدة خير الدّين المذكورة: «لا أبكي هذا الدَّمَ الذي وُوجِهَ بالصّراخ المعادي / بل طيران جوارح / حتّى العلوّ الذي يحمل فيه الدّمُ سماتِه التي لا تتبدّل / (...) / الكلمة الأخيرة لا توجَد. ديناميتُ الكلمة الأولى يكفي. / يا أناسا هم براميلُ بارودي، يا أناسا مُحَصَّنين ضِدّ الإنسان / يا إنسانا لمْ يَعُدْ له وقتٌ للشّكّ / يا إنسانا هو نظرة ضائعة، / حين تبلغُ القصيدة أقصى خُضْرَة الهذيان وتُعيدُ الصّحراء كلّ الشّفافيّة لذلك الألم غير المتقطّع الذي كان يُحَرِّكُك / يا أندري بريتون /... / تُواجِهُني العين / أبيعُ موتي. / (...) / أحيّي هذا الحصان الذي هوى من حالِق / أندري بريتون / الذي تنبجس منه القصيدة كالجنّية / ... ».

ولا يَدور، طبعا، بخَلد أحد أن يعتبر خير الدّين سوريالياً أو منتمياً إلى أيٍّ من المدارس الأدبيّة، فكاتبٌ من صنفه لا يُطيقُ العيش بين الجُدران العازلة التي تحيطُ بها الجماعات «المغلقة» نفسها. لكنّ المهمّ هو أنّ صاحب "شمس عنكبوتيّة" لم يكنْ "لامباليا" إزاء حركة شعريّة تركتْ بصماتِها على أحسن ما كُتِبَ بَعْدَها من شِعر. كما أنّ تأثيرها علـي شعره واضح، فلولا ذلك التّأثير لما قرأنا لـخير الدّين: « أُشَمِّسُ جرائمَ الرّبيع»؛ « الأنهار ترمي أكياسَ شموس»؛ « أتحدّثُ عن عينٍ مَصبوبة في كلّ غرام من العنبر المُرّ»؛ « تموت فجأة/ في الواقِع أنت تَشْهَرُ جذورك/ في ظلّي غير القابل للتّوقُّع حيثُ يتأمّلك بتأثُّر/ رجالُ الساقية الحمراء/ ترسَّبْ فوق الرّيح الشّرقيّة التي غطّاك بها نهرُ السِّين» ( هذا المقطع الأخير هو من قصيدة " وصف راية"، المُهداة إلى الشّهيد المهدي بن بركة).

ثمّ إنّ علينا أن نستحضر عددا من الأمور الأخرى الأساسيّة لدى حديثنا عن خير الدّين: فهنالك انتماؤه الجِذرى، "الحَشَويّ"، الحميم، إلى بُسطاء النّاس من أبناء الشّعب، بل من مختلِف الشّعوب، وتَشَبّعه، خاصّة، بالإرث الثّقافي لأهل الجنوب المغربي، وهنالك عدم ممالأته للقارئ، من جهة ثانية، أي أنّه كان يكتب كما كان ينبغي أن يكتب - حتّى لو اعتبر البعضُ كتاباتِه «مُعَقّدةً» أو «مستغلقةً» على المتلقّي– وبهذا يُتاحُ لذاكَ المُتلقّي أنْ يُمارسَ القراءة المُبدِعة، لا «التلقّيّ» السّلبي. ومن خلال ما أشرْنا إليه، نفهم العلاقة الأدبية الحميمة التي جمعتْ خير الدّين بشعراء الزّنوجة ( سنغور، إيمي سيزيرْ، لِيُونْ غونتران داماسْ...)، ورفضَهُ لضروبِ التّسلّط، وحضورَ الجنوب المغربي في العديد من رواياته...

وُلِدَ خير الدّين سنة 1941، في قرية أزْرُو واضو ( حَجَر الرّيح، بالأمازيغيّة)، قُرْبَ تافراوت، في الجنوب المغربي. هاجَرَ والِدُهُ إلى الدّار البيضاء، لِتعاطي التّجارة، وبقي هو في مسقط رأسه حتّى السّابعة أو الثّامنة، رفقةَ أمه التي « لم تَكُن تُحِبّه، لكنّها لم تكنْ تَضرِبُه» - كما كتب في أحد نُصوصِه - وجَدِّه، الذي سيتركُ في وجدانِه أثَرا قويّا. أمّا علاقتُهُ بأبيه فستشهدُ توتّرات حادّة، خاصّةً إثر تطليق هذا الأخير للأمّ. هذه العلاقات ستبرز في العديد من كتابات خير الدّين، حيثُ كثيرا ما يستعيدُ زمن طفولته وأمكنتها... حسب الشّاعر الفرنسي جان بول ميشيل، وهو صديق حميم لخير الدّين وناشِرُ عددٍ من أعمالِه، فإنّ سِنّ الحادية عشرة، التي عاش خلالها خير الدّين الطِّفل حادثة تطليق الأمّ باعتبارِها (أي حادثة التّطليق) تجسيدا للعسـف وللظّلم، هي التي شهـدتْ لديه مَنْشأ « التّمرّد على الأب والعائلة و الدّين والسُّلطات القائمة»، هذا التَّمرُّد الذي « سيُحَدِّدُ بعمق مسار حياة الشّاعر».

شَرع خير الدّين في كتابة الشِّعر، وهو بعدُ تلميذ بإحدى ثانويات الدّار البيضاء، وكان مصطفى النّيسابوري (الذي سيصبح بدوره شاعرا معروفا انطلاقا من أواخر ستينيات القرن العشرين) من زملائه في الدّراسة، وجمعتْ بينهما صداقة متينة كَرَّسَ لها محمّد خير الدّين صفحات جميلة من روايته " حياة وحُلم وشعبٌ، دوما في التّيه"... أنجزَ خير الدّين مُحاولاتِه الشّعريّة الأولى بالعربيّة، متأثّرا بالقصائد التي كان يُغَنّيها محمّد عبد الوهاب، لكنّه سرعان ما أدرك أنّ اللغة التي يُحْسِنُها فِعلا هي الفرنسيّة، فانتقل إلى التّعبير بِها. وتخلّى عن مُتابعة الدِّراسة إثْر حصولِه على البكالوريا. بعد الزّلزال الذي ضرب أغادير (1960)، اشتغل لحساب الضّمان الاجتماعي في تلك المدينة المنكوبة، لفترة محدودة (1961-1963)، وقد شكّلتْ هذه التّجربة منطلقـا وخلفيّة لروايته "أغادير"، التي صدرتْ عن منشورات سُويْ سنة 1967 ( كان عنوانُها، في الأصل، هو "التّحقيق"، لكنّ ناشِرها آثر تسمية "أغادير"، باعتبار أثر اسْمِ المدينة المُدَمّرة في أذهان القُرّاء وقتها). ونحن ننعت "أغادير" بالرّواية، على وجه التّقريب، إذْ في هذا العمل، كمـا في "حكاية إلـه طيّب" أو "أنا الحامض"... يَدمج خير الدّين السّرد والشّعر والمسرح والخطاب الشّفويّ في نطاق ما كان يُسَمّيه بالكتابة (كما أسلفت). وقد احتفت الأوساط الأدبيّة الفرنسيَّة بِ"أغادير"، واعتبرتْ صاحِبَها « كاتبا استِثْنائيا».

عاشَ خير الدّين حياة صعبة، أثناء إقامته المديدة في باريس - من أواخر 1965 حتّى أبريل 1979- و كان من الذين ساندوه: سارتر، بيكيت، ميشال ليرِيسْ... وفي باريس، تزوّج بِآنّي ديفوار، وأنجبا ولدا (ألكسندر)... وانفصلا. وبعد عودتِه إلى المغرب، وحتّى وفاتِه بسرطان الفكّ في 18 نونبر 1995، واجه ظروفا قاسية في أغلب الأوقات... ورغم كلّ ذلك، تمكّن خلال عُمره القصير، وبشجاعة واقتدار نادرين، من إنجاز أعمال أدبيّـة أصيلة، نذكـر من بينهـا: في مجال الرّواية: أغادير ( 1967)، "جِسْمٌ سالب، يليه: قِصّة إله طيّب" ( سُويْ، 1968)، أنا الحامِـض ( سُوي، 1970)، النّبّاش ( سُويْ، 1973)، رائحة الوَدَك (سوي، 1976)، أسطورة أغونشيش وحياتُه ( سُويْ، 1984)... وفي نطاق الشّعر: شمس عنكبوتيّة ( سُويْ، 1969)، هذا المغرب (سُوي، 1975)، انبعاثُ الأزهار البرّيّة ( منشورات الستوكي، الرّباط، 1981)،... وبعد وفاتِه، ظهرَتْ لهُ أعمالٌ لمْ تكنْ بَعْدُ قدْ نُشِرتْ، من بينها رواية بعنوان: "كان هنالك زوجان مُسِنّان سعيدان" (سوي، 2001)، ومجموعة قصص: "الدّفن ومقطوعات نثريّة أخرى وجيزة" (منشورات وِليم بليك والشّركاء، 2009)...


إفريقيا

 

-1-

أستطيع الآن أن أفهم الحياةَ بشكل أفضل

ضوءَ النهار وهو يندلع من جذور أشجار ميّتة

طيرانَ عصفورٍ في روحي

           لستُ المِرآة المنفتحة لكلّ صورة

لستُ جدار سِجنٍ ملجأٍ للتعاسات

                    الإنسانُ السّخيف يغني لدى العودة

من خسارةٍ خالصةٍ للنسغ

              كان يتُوق إلى قهر إخوته من الحليب من الدّم

لم يكن إلّا علقةً هائمة في جسد مشترَك

           ريحٌ هادئة تَقطعني

تصعد مني مثلما من شِعب

                             تَلحق بي الطفولة في نكهة البِرك

أخرج من ذاتي

                       منزلاً خَرِباً

الصيف يستقرّ فيه

              سيخرج منه الصيف كما دخلت إليه

وكثيرون سيمضون ليتعفّنوا في الحقول

التي يَحنيها سرٌّ ما

   نُسِيَ اسمه 

 في السنة الفارطة أحببتُ في سيل

من التبغ الأسود

تدحرجتُ لأتعلّم الأشياء من جديد

             أفكاري تَركتْ في فمي

طعمَ لوزٍ مُرّ 

                      الصّخر والرمل عانقاني بحرارة

                           قلبي سال دمه

مثل حِرذون بُقِر بطنه

                     في تلك السنة أَشعلتُ النار في الصحراء

وانبجَسَ أشباح

                               تعرّفتُ عليهم

                                      كانوا فعلاً أسلافي

 

      -2- 

إذا قلتُ لكم إني الذي ما عاد مرغوباً فيه

                                     الذي يتكلم ليقول

ما يُمنَع قوله

                              إذا عاتبتكم على كونكم

طاردتموني

                                  ثم رميتموني بالرصاص

هل ستفهمون

                  أنا ذلك المَيّت الذي لا يُحتمل

                           الميّت الذي يثق في الشعبذة

                                  في عدم هروب الزمن                   

  ذلك الميّت الرهيب الذي يُبصَق في فمه

حين يَهوي وجهه ويُبَقِّع    

         قارعةَ الطريق يسحقُه آلافُ العائدين

إلى بيوتهم بَعد المشاحنات الكبرى         

                       هذا ما يريده الذي يراني من بعيد

                   الذي لا يجرؤ على اجتياز الآخرة

التي تفصلنا

              أقول الأعمى الحيّ الذي لا تُسافر نظرته

فيمَ تهمني شتائمه

 فيمَ تهمني العُصارات التي تتعبّأ بها الورقة      الخضراء

                    تبقى الشوكة وإبرة النحلة التي ها هي

قد جَفّت

                                     العسل البرّي الذي يصعد

من أوردة الميت المحروقة

                                    أنا ذلك الميت الذي يُضحَك

منه                            

الميت الذي يستمرّ لسانه                   

في النزيف

 

    -3-        

لكنْ في العشب ما تزال تَجول

                 يرقةُ دوراتِ الزمن السحيقة في القِدم

                                    وَعْدٌ بأن تُعايشوا

أولئك الذين تجتثّونهم     

                  آخرون ينتظرون «مهمّة منتهية»

                     يقطعون أسلاك الهاتف

التي لم تعد تنقل ولا كلمة

                خارجٌ على القانون يتسمّر إلى صوته

وكلّهم    كلّهم يتشبثون بنجمتهم سيئة الطَّعْم

التي يتذوقونها بقلوب منقبضة

جَردة حسابِ جنسٍ حيث الزّحف من شجرة إلى شجرة هو شَعِيرة

                              أنا هذا الشّعب مجتمعاً

في شخص واحد

                           وحدي أقطف تفاحة

                                   تتعفّن بسرعة في الصحراء                                         أواجه العاصفة الدنيئة

عاصفةَ السّادة

               وحدي أموت من أجل هذا الشّعب

المستدرَج إلى اللامبالاة

                                       شعبٌ ما تزال تسبقيه

مياهُ بئرٍ قذرة

                        فلْيحيلوني إلى مسحوق

                             أنا حَجَرة وزنها ثقيل جِدّاً

                       تَسدّ فُوهة أكثر من منجمٍ

                     غير أني أسيرُ جنب الظّلّ المهترئ

للشّعب

                                                 أحقنه بدمي

            في العشب أكتشف فجأة أنني نواةُ كلّ

العذابات

                   لكنني سأمضي وحدي تحت المطر

                وأنا أضمّ عدوي سأُصبح لهباً

                                      ونموت معاً

                              وأبديّتي ستكون قولاً

 

    -4-

لقد رأيتُ يسوعات مصلوبين

                         لكنْ أيديهم هل فهمتُها

              هي لم تَعْنِ للشمس سوى طلعة

هي لَمْ تدرك إلّا نهايةَ معاناةِ مريض

    أيدي حُبّ واحد

                   مؤهّلة لكسر أصلبِ القضبان

                    والجدارِ المُصمَت أكثر من غيره

أيدٍ تنغمس في الصراع حتى آخر لحظة

   رأيتُ يسوعات آخرين بلا أشواك يُصلَبون

             والرّشقة كانت كمطر في الصّيف

بلا أشواك أتدرون ما يعنيه هذا

                                لكنّ الحصاد لا يزال بعيداً

حصادُ ذهبٍ ودم مُقابل جوع شعب يريد

                                 أن يستمرّ في العيش

الرّشقة كانت كمطر الصيف

                  البِذرة التي لم يكن طائرٍ يجرؤ على نَقرها

البِذرة حيث الحلم يصبح الحقيقة الوحيدة

                        فيمضي في المجال الواسع كجزيرة

     غير مسكونةٍ ملايينُ من الناس الذين بلا مأوى

الذين ما زالوا يتدثّرون ببقايا قلوبهم

          رأيت يسوعات يُصلبون في الليل                       

  ثم جاء الفجر أحمر وأبيض

 من بين ذاكرة النخيل وأيقظني

                                  وكان ذلك كلّ شيء

                               رأيتُ

يسوعات يُصلبون

                     يسوعات

                              اسْألوا الطرق عن أسمائهم


    -5-

لن يخترق لُعابي قَطْعاً

حروفَ العلة النّيّئة التي حضرتْ

                                    ولادتَك طفلاً حَذراً

         لُعابي هو المِلْك الوحيد

أهو ذا وقت الذهاب إلى كوكبٍ ما يعيش أزمة

             أو إلى بُطَين يهدّد واحدة من ديدان البطن

 تدور في ظلمة دانية

                                  سأمضي في هذا النّفق

إنْ كان يؤدّي إلى حالات امتعاضك

     ومُهمّتي ستكون هي أن نشترط على الطّريق

                                     موافقة الحصان

طفلاً حذراً

كذلك كان الثعبان الذي ينحشر في الرمل

إن أحسّ بأدنى خطر

غُددي التي كبُرتَ فيها تحتوي حبراً مسموماً

 

    -6-

رأيت رجالاً يسقطون

                   يوماً بعد يوم يتكرّر الأمر

                                        ذِكراهم ضاعت

بنفخة غريبة على الأرض

لا تبكوا أيها الأموات المتجدّدون

                                    قصيدتي هي

الصليب الهائل الذي يناديكم

                هي حملةٌ على أولئك الذين يَجنون عليكم

          قصيدتي جاهزة لترتفع بكم إلى أعلى

                            من إكراهات سطح الأرض

رأيت رجالاً يسقطون

                 إنهم ينشرون إشعاعهم

أينما حسبتُ أني أسمعهم

لكنهم يبقون بعيدين عن المروج حيث فزّاعات

فحسب

                                             تَفرض قوانينها


-7-

آخرون سيُعلنون عن وجودهم الذي بلا جدوى   

                                            مُسايرينَ لِدرجاتِ

اختفاء الزمن

آخرون سيتنكّرون نهائياً لمطامحهم السالفة

آخرون سيمضون للركوع أمام رُفاتهم

                               ويستمرّون في التّمجيد

آخرون سينصبون تماثيلهم التي بكاملها من ضباب

                                      مع اشتداد حُلْكة                

                                        لَيلِهِمْ

آخرون سيموتون بلا عراقيل

    هؤلاء سيكونون قد شَرَّبوا الإنسان حياتهم الخاصّة

هؤلاء سيكونون قد دشّنوا عهداً

يكتسب فيه الدّم أخيراً

                                   ثمنَه وستكون تلك

بدايةً حقيقية ونهايةً حقيقية

 

       -8-

أتحدث إلى المحرومين والعراة الذين يتخفّون

                                      أتحدث إلى المنبوذين

كلمتي هي المتاع الذي نتقاسمه

                  أتحدّث إلى من هم بدون مأوى وإلى المُرعَبين

كلمتي هي ملجؤنا المشترك

مثلهم يتمُّ قتلي بيديّ

                       لكنْ مثلهم أريد أن أحيا من جديد


  -9-

إنّها السّاعة المَهيبة

                                   الساعة الأخيرة

                          إنّها تَطلع من الأحجار الأولى

                                أرى نَفْسي فيها مُجَدّداً

كما هواءُ الماضي               

                                فقاعةً مشترَكة

                                  وأمنح نفسي

منحوتةً جديدة وتراجيديا

                    على سماء مشويّة كما يجب في قلبي

وأمنح نفسي

لكنْ لا تقولوا شيئاً

أنصتوا إلى قلبي

                                  إنه يضحك مثلما طفل

ذلك أنكم قد فقدتم قلوبكم

                                                    

                     (الدار البيضاء، 1964)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 


للتّحميل :  

محمّد خير الدّين -أربعة نصوص شِعْرِيّة

دَمي الذي يَرْشو اليأسمحمّد خير الدّين