ترجمة وتقديم : مبارك وساط
![]() |
إيتالو كالفينو |
مِمّا كان قد قاله رولان بارتْ عن الكاتب الإيطاليّ إيتالو كالفينو Italo Calvino: «إنّ له كتابةً خاصّةً به كلّيةً، مثل كُلِّ كاتب كبير، ويُمكنُ التّعَرُّفُ عليها...». يبدو هذا جَلِيًّا في القصص الاثنتي عشرة التي يَضُمّها كتابه السّرديّ "كوسْميكوميكس" ("كونِيّات هزلِيّة").
في مُستهَلّ كُلٍّ من قصص تلك المجموعة، نجدُ فقرةً معزولة في أعلى النّصّ، مكتوبةً بحروف مائلة، وهي ذاتُ طابعٍ نظريٍّ ومرجعيّة علميّة، ويفْصِلُها بياضٌ عن النّصّ القَصَصيّ البحت، أي النّصّ الذي تظْهَرُ في ثناياه الشّخصِيّات وتجري الوقائع، فكأنّما هنالك صوتٌ من خارجِ القِصّة الفِعْلِيّة يَقومُ بإلقاء تلك الفقرة التّمهيديّة. والذي يتولّى عملِيّةَ السّرد في ما أسْميناه النّصّ القصصيّ البحت، هو ذلك الشّخص المُثير، الذي وُجِد منذُ بدايات تشكُّلِ الكون وعاصَرَ ذلك التّشَكّل، ألا وهوالشّيخ «المُسِنّ» – وكيف لا يكون كذلك؟ – ذو الاسْم الذي لا يُمْكِنُ التّلفّظ به: (Qfwfq)، والذي يبدو أنّ أقرب طريقة لكتابته بالعربيّة هي التّالية: "ك ف و ك ف"! يبدأ الشّيخُ في الكلام بتأكيدِ أَنَّ ما وَرَدَ في فقرةِ الاستهلال، ذاتِ الطّابَعِ العِلْمي، صحيحٌ، بناءً على تجربة شخصيّة عاشَها في ماضٍ سحيق، وبعدها يُباشِرُ سَرْدَ ذكرياته عن التّجربة المذكورة. بهذه الصّورة، يُصْبِحُ النّصّ الذي نتحدّث عنه، مجالاً تلتقي فيه الكوسمولوجيا بالغرائبيّة والخُرافة…
***
- إيتالو كالفينو ( 1923، 1985). روائيّ إيطاليّ معروف. من رواياته : "الفِسْكونت المشطور"، "البارون المُعلّق"، "الفارس اللاموجود"، "لو أنّ مُسافِرًا في ليلة شتاء". ومن أعماله في القصّة : كوسْميكوميكس" (أو: "كونيّات هزلِيّة")، "الزّمن الصِّفْر"… وله عددٌ من الكتابات النّظريّة في الأدب.
*****
النّصّ :
في سالف الزّمان، حسب السِّيرْ جورج ه. داروين، كان القمرُ قريباً جِدّاً من الأرض. وحركةُ المدّ والجَزْر، الدّؤوب، هي التي أبعدتْه عنها تدريجيّاً: تلك الحركة التي يبعثُها القمرُ نَفْسُهُ في المياه الأرضيّة، والتي تَفقدُ الأرضُ من خلالها، شيئاً فشيئاً، طاقتَها.
أعرفُ هذا جيّداً ! – هتفَ "ك ف و ف ك"، الشّيخُ المُسِنّ– لا تستطيعون، أنتم، أنْ تتذكّروا ذلك، أمّا أنا فأستطيع. لقدْ كان فوق ظهورنا باستمرار، أعني القمر، كان هائلَ الحَجْم في فترة اكتماله. خلال تلك الفترة، تكون الليالي في مثل ضوء النّهار، سوى أنّ ضوءها يكون بِلَوْنِ السَّمْن ويَبْدو للرّائي كأنّه على وشك أنْ يتحطّم؛ وأثناء اتّخاذِهِ شَكْلَ هلال، كان القمر يتدحرجُ عبرَ السّماء مثلما مظلّة سوداء تدفعُها الرّيحُ أمامها؛ وخلال تنامي حَجْمِه، كان يتقدّم وقَرْنُه واطئٌ حدَّ أنّ ذلك القرن كان يبدو على وشك أنْ يَنفُذَ في نُتُوءٍ صَخْرِيٍّ بجبل ساحليّ، وأنْ يبقى ملتصقاً به. لكنْ أثناء كلّ ذلك، لم تكن دورة تحوّلاته تجري بنفس الصّورة التي يتمّ بها ذلك في الحاضر، لأنّ المسافات من الشّمس كانت مختلفة إلى حدّ بعيد، وكذلك المدارات، وانحناءُ شيء ما لا أستطيع تحديدَه؛ وهكذا، فالخسوفات، إذ يكون القمر والأرض ملتصقين، كانت تَحدث في كلّ آن: فأنّى لنا أن نفهم كيف أنّ هذين الوحشين كانا يتفاديان أنْ يُغَطّي أحدهما الآخر بظلّه بشكل مستمرّ. مَدارُه؟ إهليلجيّ، طبعًا، كان المدارُ إهليلجِيّاً: ينبسِطُ قليلاً فَوقنا، ثمّ يستمرّ مُتباعِداً. وَحين يُصْبِحُ القمر واطئاً جِدّاً، كانَ المدّ العاتي يَجعل الأمواج ترتفعُ بشكل هائل إلى حدِّ أنّه لم يكنْ هنالك مَنْ يستطيعُ إيقافَها. وقد كانتْ هنالك ليالٍ يكون فيها القمرُ بَدْراً، ونازِلاً كثيراً، ويكون فيها مدٌّ، والموجُ خلالها يرتفع إلى عُلُوٍّ قَصِيّ، حدَّ أنَّ القمر كان كأنّهُ على وشك أن يَنْغَمِسَ في مياه البحر، أو فَلْنَقُلْ إنّ بِضْعَةَ أمْتار فَحَسْب هي التي كانَتْ تَفصِلُهُ عن البحر. ألمْ نُحاوِلْ قَطُّ أنْ نَصْعَدَ إلى ظَهْرِه؟ كيف لا! كان يكفي المُضِيُّ، في مركب، حتّى نَصيرَ تحته، وبعدها نُسْنِدُ إليهِ سُلَّماً ونَصْعد. كان القمرُ يُصْبِحُ دانياً أكثرَ في مَوْضِعٍ بِعُرْضِ البَحْر، جِهَةَ المكان المُسَمّى "صُخور الزِّنّكِ النّاتِئة". وكنّا نَلْتحق بذلك الموضع على متن قواربَ صغيرة، مستعملين مجاذيف ذلك الزّمان، التي كانتْ دائريّة ومُسَطّحة ومن فِلّين. كانَ في القوارب مكانٌ لجماعتنا: القبطان "ف ه د ف ه د"، زوجتُه، ابنُ عمّي الأصمّ، وأنا نفسي، وأحيانا تَنضاف إلينا الصّغيرة "س ل ت ه ل س"، التي كانت في نحوِ الثّانية عشرة وقتذاك. خلال ليالي الاقتراب الشّديد للقمر، كانَ الهدوء يَرِينُ على المياه، التي كانتْ تَصيرُ فِضّيَة المظهر كما الزِّئبق، وبداخلها كانت الأسماكُ تبدو بنفسجيّةً، ولأنّ تلك الأسماك لم تكن تستطيعُ أنْ تُغالب جاذبيّة القمر، فقد كانتْ تَصِلُ كُلُّها إلى السَّطْح، ومعها أخطبوطات ومَدُوسات في لون الزّعفران. وكانتْ هنالك دائماً غيمة من الدُّوَيْبّات الدقيقة – سلطعونات صغيرة، حبّارات، وأيضًا طحالبُ خفيفة شفيفة وشُعَبُ مرجانٍ صغيرة – تنفصِل عن البحر وقد تنتهي على القمر، مشدودةً إلى سطحِهِ الجِبْسيّ، أو تبقى في منتصف الطّريق، في الهواء مثلما مجموعة من النّحل، مُشَعْشِعَةً، ولإزاحتها كنّا نَهُشُّ عليها بأوراق أشجار الموز. كان عملُنا يتمثّل في ما يلي: أنْ ننقلَ سلّماً في مركب؛ ثُمّ يُمْسِك واحِدٌ منّا السّلّم، ويرتقيه ثَانٍ، فيما يتولّى ثالثٌ، يكون هو المكلّف بالتّجذيف، مهمّةَ إيصالنا إلى تحتِ القمر. كان ينبغي أنْ نكون عديدين (فأنا لم أذكر إلّا ذوي الأدوار الأساسيّة). وكان الذي في أعلى السُّلّم يصيحُ، مرعوباً: "توقّفوا! توقَّفُوا! سَيُدَقُّ رَأْسي!" فذاك كان هو الإحساس الذي ينتاب الواحد منّا وهو يرى القمر فوقه، بحجمه المَهول، وما ينبثق منه مِن نصال قاطعة ونتوءات شبيهة بأسنان المناشير. الآن تيدّل الأمر ولا شكّ، لكنْ في تلك الحقبة كان القمر أو، للكلام بشكل أبلغ، كان جانبه العميق أو بطنه، وهو جزؤه الذي يقترب أكثر من الأرض لدى مروره، حدّ أنّه يتدحرج فوقها، مُغطّىً بقشرة من الحراشف حادّة الرؤوس. كان قد أصبح شبيهاً ببطن سمكة، وزيادة على هذا، فإنْ لم تكن له رائحة الأسماك، فقد كانت له، فيما أتذكّر، رائحة أخفّ بقليل، وأعني رائحة السّلمون المُدَخَّن. في الواقع، كان يَسَعُ المرءَ وهو في أعلى السُّـلَّـم أنْ يلمسَ القمر، فحسب، إذا مدّ يديه وثبّت قدميه على درجة السّلّم العليا واستقام في وقْفته. كنّا قد دقَّقنا القِياسات (لمْ يكن قد تبادر بَعْدُ إلى أذْهاننا أنّ القمر سيشرُعُ في الابتعاد)؛ والشّيءُ الوحيد الذي كان علينا أنْ نُولِيَه أشدّ الاهتمام، هو الأمكنة التي نضعُ فيها أيدينا. أنا كنتُ أختارُ حرشفةً بادية الصّلابة، فسَطْحُ القمر كانَ مُغَطّىً وقتَها بالحراشف (وقد كان علينا أن نصعد كلّنا، لكنْ بالتّناوب، في مجموعات تضمّ خمسة أفراد أو ستّة، وكنتُ أتشبّثُ بالحرشفة بإحدى يديّ، ثمّ بالأُخْرَى، وعلى الفور كنتُ أشعر بأنّ السّلّم والمَركب ينزاحان مِنْ تحتِ قدميّ، وأنّ القمرَ كان ينتزعني من الجاذبيّة الأرضيّة). نعمْ، لقد كانَ للقمرِ قوّةٌ ترفعُ المَرْء، وذاك ما كان يُدْركه الواحِدُ منّا جَيّداً في لحظة الصُّعود إلى سَطحه: كان ينبغي أن يتمّ الارتقاء بسرعة شديدة، عن طريقِ القيام بِحركة تَشَقْلُبٍ بهلوانيّة، ولينجَحَ المَسْعى، كان يجِبُ التّمسّكُ جيّداً بإحدى الحراشف، والانقذاف في الهواء والسّاقان إلى أعلى، وهكذا تجد نفسك واقفاً على سطح القمر، والذي ينظرُ إليك من الأرض، يراك كمشنوقٍ رأْسُه إلى تحت، لكنّك أنْتَ، في الواقع، تجدُ نفسك في وضعك المألوف تماماً، والشّيء الوحيد الغريب هو أنّك حين ترفعُ عينيك، ترى سطحَ البحر المُتلألئ فوقك، وبِهِ المَرْكب والرّفاق برؤوسِهم التي إلى أسفل، وهُمْ يَتمايلون كما عنقود يتدلّى من شجرة عِنَب. أمّا الذي كانتْ له براعة خاصّة في عمليّة الصُّعود هاته، فهو ابنُ عمّي، وقدْ كان أصَمّ. فَفَوْرَ مُلامَسَةِ يديه الضّخمتين سطحَ القمر (وهو كان دائمًا أوّل مَنْ يَرْتقي السّلّم ثمّ يقفز إلى ذلك السّطح)، كانتا تكتسبان مُرونة وتُصْبِحانِ خليقتين بِأَنْ يُوثَقَ بمقدرتهما إلى أبعد حدّ. لقد كانتا تعثُران فوراً على المَوضِعين اللذين يَكفلان لهما التّمسُّك جَيِّداً من أجل أنْ يتمكّنَ صاحبُهُما من الارتفاع بجسده. بل يُمكن القول إنّ ابنَ عمّي كان، بِالضَّغْطِ بِراحتيه فحسب، يلتصقُ بِقِشرة القمر. وذات مرّة، شعرتُ حقّاً أنّه حين مَدّ يديه، اقتربَ القمرُ لملاقاته! وبالبراعة نفسِها كان يَنزِل عائداً إلى سطح الأرض، وهذه عمليّة أكثرُ صعوبة. ففيما يَخُصُّنا نحن، كانت العودة تتطلّبُ من الواحد منّا أنْ يقفز في الهواء، بَلْ وَأَنْ يندفع حين يقفز بأقْوى ما يستطيع، مادّاً يديه إلى أعلى (هذا، بالنّسبة لمن يراهُ من القمر، لكنّه يبدو لِمن يتطلّعُ إليه من الأرض كأنّه ينقذف صوبَ مياه عميقة أوْ يَعومُ فيها، ويداه مُتَدَلِّيتان إلى أسفل)، أي أنّنا، إجمالاً، كنّا نقوم بنفس القفزة التي نَقَلَتْنَا في البَدْءِ إلى القمر، ما عَدَا أنّ السّلّم يكون ناقِصاً في قفزة العودة، إذْ لا يكون هنالك ما نُسنده عليه ونحن على سطح القمر. أمّا ابنُ عَمّي، فإنّه، عِوَضَ أنْ ينقذف ويداه مرفوعتان إلى الأعلى، كانَ ينحني على سطح القمر ورأْسُهُ إلى أسفل كما لو أنّه يريد أن يتشقلب، وَإِثْرَ ذلك كان يَقِفُ على كفّيه ويَشرُعُ في عمليّة القفز. ونحن، مِن المركب، كنّا نراهُ مستقيماً في الهواء، كما لو أنّهُ يُسْنِد الجِرْمَ الهائل الضّخامة ويَرُجّهُ بضرباتِ راحتيه، حتّى إذا أصبحتْ ساقاهُ في متناول أيدينا، أمسكناهُ من عرقوبيه وأنزلناه إلى المركب.
الآن، ستسألونني عَمّا كان يدفعُنا إلى اقتراف فَعْلَة الصّعود إلى القمر، وفوراً سأُبَيِّنُ لكم الدّافع. كنّا نصعدُ إليه لِجَلْبِ الحليب، مُزَوّدِين بملاعق كبيرة وسُطُول. كان حَليُب القمر ثخيناً جِدًّا، مثلما صِنْف من الجُبْن الأبيض. وكان يتكوّن في فجواتٍ تحت حراشفِ السَّطح عن طريق اختمار العديد من الأجسام والموادّ المجتذَبَة ممّا يكون القمر قد عَبَر فوقه من سهولِ الأَرض وغاباتِها وبُحيراتِ شواطئها. لقد كان مُكَوَّناً أساساً من عُصارات نباتيّة، ومن صِغار الضّفادع، ومن القار والعدس وعسل النّحل وبلّورات النَّشا وبيوض سمك الحفش، ومن عُفوناتٍ ومن غُبار الطَّلع والجيلاتين والدّيدان والصّموغ والأبزار والأملاح المعدنيّة ونفايات المحروقات. كان يكفي غَمْسُ الملعقة تحت الحراشف التي تُغَطّي سطح القمر القِشْريّ لِنُخرجها مليئة بالسّائل النّفيس. وهو لا يكون في تلك اللحظة خالصاً، أتفهمون، ذلك أنّ الأَخْبَاث لم تكن مُنعدمة فيه: فَخِلال الاختمار العامّ (ومعلوم أنّ القمر كان يقطع امتدادات من الهواء شديد الحرارة فوق الصّحاري)، لم تكن كلّ الأجسام تتحلّل في المجموع؛ كان بعضُها يبقى مُنغرساً فيه، فتكون هنالك أظفار وغضاريف ومسامير وأفراس بَحر، ونَوَياتٌ وسُوَيقاتُ نباتات وشظايا صُحون، وصنّاراتُ صيّادين، بل وأمشاطٌ في بعض الأحيان. وإذن، فبعد اجتناء هذا السّائل بما فيه، كان ينبغي أنْ تُزالَ قشدتُه باستعمال المصافي، ولم تكن الصّعوبة تكمن في هذا، وإنّما في كيفيّةِ إيصال المادّة المُحَصّلة إلى الأرض. وهذه كانتْ طريقتنا: كان الواحدُ منّا يقذف إلى الهواء بِحِمْلِ مِلْعَقة، عن طريق اعتماد هذه الأخيرة كمنجنيق صغير. وكان الجُبْن الأبيض ينقذفُ في الهواء، وإذا كانت الرّميةُ قَويّةً بما فيه الكفاية، فإنّ القطعة البيضاء كانتْ تمضي لتتشتّت على السّطح العُلْويّ، أيْ على سطح البَحْر، حيثُ كانتْ قِطَعُها تَطْفو وتتهَزهز، وَوَقْتَها يَكونُ يَسيراً على مَنْ في المركب أنْ يُقرّبوها مِنْهُمْ ويَنتشِلُوها. فيما يخصّ الرَّمي بالملعقة، كان ابنُ عمّي الأصمّ يُبْدي تَوفُّزاً خاصّاً: فحركة الرُّسغ لديه كانتْ مُحكمةً، مثلما نَظرة العين؛ وبِشكل مباشر، كان يُصيبُ الهدف إذْ يقوم بالرّمي صوب فُوهة سطلٍ كنّا نَمدّه في اتّجاهه من المركب. وعلى عكْسِه هو، فإنّي، أحياناً، لَمْ أَكُن أُحرز نجاحاً يُذكر، إذْ لَمْ يَكُنْ يُقيَّض دائِمًا لِحِمْل الملعقة من الحليب الذي أقذفُ به أنْ يتغلّب على جاذبيّة القمر، وهكذا، فقد كان يحدثُ أنْ يَعُود ويسقُط على إحدى عينَيّ.
لمْ أَقُلْ لكم بعدُ كلَّ شيء عن العمليّات التي كان ابنُ عمّي ذا مقدرةٍ كبيرةٍ عليها. فعمليّة استخراج حليبِ القمر مِمّا تحت الحراشف، كانتْ بالنّسبة إليه ضَرْباً مِنْ لَعِب الأطفال، وعوضَ استعمالِ الملعقة، كان أحياناً يحْشُر تحت الحرشفة يده العارية، أوْ واحِدَةً من أصابعه فحسب. ولم يكنْ يبحثُ عن الحليب تحت أيّما حرشفة، بل تحت واحدة هنا، وأخرى بعيدة عنها بعض الشّيء، مُنتقلاً مِنْ نقطةِ بحثٍ إلى أخرى عن طريق القفز، كما لوْ أَنّه كان يُرِيدُ أنْ يتحايل على القمر، أنْ يُفاجِئَهُ أو أَنْ يُدغدغه حتّى. وحيثُما كان يضعُ يَدَه، كان الحليب ينبجسُ كأنّما من ضِرْعِ مِعْزاة. فلم يكنْ يبقى لنا نحن سوى أنْ نسير خلفه وأن نَجمع بملاعقنا المادّة التي تتقطّر، هنا وهناك، مِمّا كانَ هُو يستخرجه، ولكنّ هذا كان يَحدثُ دائماً كما لوْ بِفعل المصادفة، إذ إنّ المسارات التي كان الأصمّ يتَّبعها لم تكنْ تبدو خاضعة لأيّ مُخَطّط واضح وعَمليّ. فقد كانت هنالك، مثلاً، أماكن لم يكنْ يلمسُها إلّا لرغبته في ذلك: فجوات بين حرشفة وأُخرى، الثنايا العارية والناّعمة لِلُباب القمر. وفي بعض الأحيان، كان ابنُ عمّي يَقوم بضغطة على أحدنا، لا بأصابع يديه، بل بإبهام إحدى قَدَميه، بعد قفزات محسوبة كان يقوم بها، (كان يصعد إلى القمر حافيَ القدمين)، وكان يٌحَقّق بذلك، فيما يبدو، أوجَ السّعادة، باعتبار الهرهرة التي كانت تصدر عن لَهاته والقفزات التي كانت تلي ضَغطاته تلك.
لمْ يكن سطح القمر مُغطّىً بالحراشف بشكل منتظم، بل كانت فيه مناطق عارية، غير منتظمة، مِن صلصال مُزْلِق وباهت. كانت تلك الأَفضية الليّنة تُوحي للأصمّ بتشقلبات وحتّى بما يُشبِه تحليق الطيور، كما لو أنّه كان يريد أنْ يطبع شخصه بأكمله في طين القمر. وهكذا، في النهاية، حلّت اللحظة التي لم نعد نُدرك له بَعدها أثراً. فعلى سطح القمر كانت تمتدّ مناطق لم نستكشفها قطّ - لعدم وجود رغبة أو دافع لفعل ذلك - وفيها بالضبط كان ابنُ عمّي يختفي. وفيما يخصّني، فقد انتهيتُ إلى التّفكير بأنّ كلّ تشقلباتِ ابن عمّي وكلّ الضّغطات بإبهام قدمه - وقد كان يطلق لنفسه العنان في القيام بها مِراراً على مرأًى منّا - لم تكنْ سوى تَهييء أو تمهيد لأمرٍ سرّيّ سَيجري ولا شَكّ في المناطق المجهولة مِنْ قِبَلِنا.
خلال تلك الليالي التي كنّا نقضيها في عُرْضِ البحر بِجهةِ "صخور الزّنك النّاتِئة"، كانتْ حالتُنا الذّهنيّة يَسِمُها المَرَح، وكانت ،في نفْسِ الآن، مُزَعْزَعةً بعض الشّيء، فكما لو أنّ كُلّاً منّا كان يشْعُرُ أنّ في جمجمته، عِوَضَ المُخّ، سمكةً تطفو ويجتذبها القمر. وهكذا كان المركب يتحرّكُ بنا ونحن نُغَنّي ونعزفُ الموسيقى. كانتْ زوجةُ القُبْطان تَعْزِفُ على القيثار. وقد كان لها ذراعان طويلان جِدّاً يبدوانِ خلال تلك الليالي مُفَضَّضين كأنْقَليسين، وكان إبطاها قاتمين، يَرِينُ عليهما بعض الغموض كأنّهما من قنافذ البحر؛ وقدْ كانَتْ أصْواتُ القيثار رقيقةً جِدًّا وحادّةً حَدَّ أنّها كانتْ بالكاد مُحتمَلة، فقد كانتْ تستثيرُ منّا صرخاتٍ قويّة، لم تكن ناجمةً عنْ تفاعُلٍ مع الموسيقى، بقدرِ ما كانتْ لِحمايةِ آذاننا منها.
كانت قناديل البحر الشّفافة تبرز إلى سطح اليمّ، مرتعدةً، وتحلّق نحو القمر، متموّجة. كانت الصّغيرة "س ل ت ه ل س" تتسلّى بالقبض عليها في الهواء، لكنّ الأمر لم يكن دائماً سهلاً. ففي إحدى المرّات كانت تحاول أن تَقبض على أحد قناديل البحر بيديها الصّغيرتين، فإذا بها تقوم بقفزة طفيفة لتجد نفسها مُعلَّقةً بدورها. وباعتبار نحافتها، فقد كان وزنها غير كافٍ ليجعل جاذبية الأرض تتغلّب على القوّة الجاذبة للقمر وتستعيدها إلى سطح الأرض. فسرعان ما انتابها الخوف، وبكت، ثمّ أطلقت العنان للضّحك وبدأت تَلعب مُمسِكة ببعض القِشريّات وصِغار الأسماك أثناء ارتفاعها في الجوّ، جاذبة بعضها إلى فمها ومعضعضةً إيّاها. كنّا نتحرّك بحيث نبقى خلفها: فالقمر كان يمضي في مداره البيضويّ، جارّاً من خلفه، عبر السّماء، ذلك السّرب من حيوانات البَحر الصّغيرة ورتلاً من الطّحالب الطويلة التي كانت تلعب دَور الأمواج، ووجدت الطفلة الصّغيرة نفسَها وسط كلّ هذا، مُعلّقةً. كانت لها ضفيرتان جميلتان، تبدوان كأنما تُحلّقان مُستقلّتين، ممتدّتين في اتّجاه القمر؛ لكنّها في الوقت نفسه كانت تقوم بركلات، وترفس الهواء بقصبتي ساقيها، كما لو أنّها تريد أن تُقاوم تلك القوّة التي تَجرّها، وانسلَّ صندلها من رِجليها وطارت فردتاه، وانزلق جورباها وتدلّيا مِن قدميها تجذبهما قوّة الأرض. ونحن، على السّلّم، كنّا نُحاول الإمساك بتينك القدمين. ولقد أَحْسَنتْ حين شرعتْ في أكل تلك الحيوانات البحريّة الصّغيرة المُعَلَّقة؛ فكلّما ازداد وزن "س ل ت ه ل س" نشطتْ حركةُ نزولها نحو الأرض، وإضافةً إلى هذا، فلأنّ جسمها كان الأكبر بين الاجسام المحيطة بها، بدأت الرّخويّات تدور حولها، وكذلك الطّحالب وعَلَقُ البحر، وسرعان ما غطّت جسمَها قواقعُ صوّانية شديدة الصِّغَر، ودَرَقاتُ قِشريّات، وأصدافٌ، وأليافُ أعشابِ البحر. وبقدر ما كان جسدها يختفي تحت ذلك الرّكام، كانت تتحرّر أكثر فأكثر من مفعول القمر، وجاءت اللحظة التي لامستْ فيها سطحَ البحر، ثمّ انغمست في مائه. وسارعنا إلى التّجذيف لإخراجها وإنقاذها: كان جسدها لا يزال مُمَغنَطاً، وكان علينا أن نعمل الكثير لننزع عنها كلّ ما كان لصيقاً بجسدها. كانت مرجاناتٌ رخوة تُغَشّي رأسها، وكلُّ ضربةِ مُشط كانت تجعل أسماك أَنشوجَة وإربيانات صغيرة تتساقط من شَعرها؛ وكانت قواقع البَرْنَقيل ذات المحاجم تلتصق بجفونها؛ وكانت مِجسّاتُ حبّاراتٍ قد تلوّت على ذراعيها وعنقها وأصبح رداؤها الصّغير عبارة عن نسيج من الطّحالب والإسفنج. وقد حرّرناها مِن غالبيّة ما علق بها؛ وبعد ذلك، استمرّتْ هي نفسها في إزالة الزعانف والقواقع الملتصقة بها؛ لكنْ، ستبقى على الدّوام منغرسةً في جِلدها، طحالبُ في منتهى الصِّغر، تتبدّى للرائي غير المُمَحِّص كَخِيلانٍ تنتشر على إهابها بتناسق رهيف.
هكذا، إذن، كانت الفجوة بين الأرض والقمر مَرتعاً لتينك القوّتين الجاذبتين، وفيها كان يتمّ التّوازن بينهما. بل سأقول أكثر من هذا: إنّ كلّ جِسْمٍ ينزل من القمر إلى الأرض كان يبقى لِبعضِ الوقت مشحونًا كُلِّيَّةً بالقوّة القَمَرِيّة، وَمُقاوِماً لِجاذبيّة عالَمِنا. وأنا نفسي، رغْمَ بدانتي وطولِ قامتي في تلك الأيّام، كنتُ، كلّما عُدْتُ من فوق، أقضي وقتاً قبل أنْ أتعوّد من جديد على وجودي على الأرض بموقعها تحت القمر، وقد كان على رفاقي أنْ يُمسكوني من يَدَيّ ويستبْقُونِي بالقُوّة، وهم مُتَراصّون من حولي في المركب الذي كان يتهزهز، فيما كُنْتُ أنا أستمرّ في مَدّ يَدَيّ نحو السّماء. "تشبّثْ، تَشَبَّثْ بنا جَيِّداً" : كانوا يصيحون بي. وأنا، إذْ كُنْتُ أُحرِّكُ يَدَيّ بشكلٍ عشْوائيّ، كان يَحْدُثُ أحياناً أنْ أُمْسِك بواحِدٍ مِنْ ثَدْيَي السّيّدة "ف ه د ف ه د"، وقد كان ثَدْياها مُدَوّرين لدْنَيْن، وضَمّةُ كفّي على الواحد منهما تكون مَكينَة، كما كانت لصاحبتهما جاذبيّة مُساوية لجاذبيّة القمر أو أكبر منها، وهذا ما كُنْتُ أسْتشْعِرُه بِجلاء تامّ حين أتمكّن وأنا أنزل، ورأسي إلى أسفل، في أن أُحيطَ خَصْرها بيدِي التي لا تَنْضَمّ كَفُّها على الثّدي، وبتلك الصُّورة كانَ يَتِمّ حُلُولي مُجَدَّداً بِعالَمِنا هذا، وكان القُبْطان "ف ه د ف ه د"، مِنْ أَجْلِ أنْ يُعيدَنِي إلى وعْيي، يَدْلق عليّ سطلَ مَاء. هكذا سقطْتُ في غرام زوجة القُبْطان، وابتدأتْ عذاباتي. ذلك أنّي سرعانَ ما تبنّيتُ مَن الذي كانتْ تَتوجَّهُ إليه هي بِنَظراتها الطّويلة؛ فحين كانتْ كفَّا ابنِ عَمّي تُثْبَتَان بثقة على سَطْحِ القمر، كنتُ أنْظُرُ إليها، فأقرأ في نظرتها الأفكار التي كانت تنجم لديها يبعثُها بين الأصمّ والقمر، وحين كان الأصمّ يختفي في تَرَحُّلِه الغامض على سطح القمر، كنتُ أراها تقلق، وتُصْبِح كأنّها على جَمْر الغضَى، إذا شئنا أنْ نستعمل هذا التّعبير، وهكذا اتّضح الأمرُ بالنّسبة إليّ، وفهمتُ أنّ الغيرة كانت تتنامى، لدى "ف ه د ف ه د" من "لونا"* (القَمَر)، وتتنامى لديّ أنا من ابْنِ عَمّي. كانت عينا السّيدة "ف ه د ف ه د" أَلماسَتين؛ وكانتا، حين تنظران صوب القمر، ترميان بشرر، فكأنّ صاحبتهما كانت تتحدّى لونا (القمر)، قائلةً لها: «لن يكون لك !» أمّا أنا، فشعرتُ بأنّي مَقصِيّ. كان الأصمّ أبعد ما يكون عن الاهتمام بكلّ هذا. فحين كنّا نساعده في النّزول، جاذبين إيّاه من ساقيه، كما شرحتُ لكم ذلك، كانت السّيدة "ف ه د ف ه د" تَخلعُ العِذار، باذلةً أقصى جهد لتجعله ينزل بكاملِ ثِقَله فوقها هي شَخصِيّاً، ضامّةً إياه بكلتا يديها فِضّيتي البَشرة؛ وكنتُ أنا أستشعر من جَرّاء ذلك ألماً حادّاً في القلب (ففي المرّات التي كنتُ خلالها أُمسك بها، كنتُ أجد جسدَها طيّعاً آسِراً، لكنّه لا يكون مندفعاً بتاتاً إلى الأمام، مثلما يحدث مع ابن عمّي)، فيما كان الأصمّ على لامبالاته وانتشائه بالقمر. كنت أنظر إلى القبطان، متسائلاً عمّا إذا كان هو أيضاً قد لاحظ سلوك زوجته؛ لكنّ أيّ تعبير لم يكن ليظهر على وجهه الذي تنتشر فيه بثور ورديّة الحوافّ وتجاعيد بلون القطران. وإذ كان الأصمّ آخر من ينفصل عن القمر، فقد كان نزوله إيذاناً بالانطلاق في المراكب. وقتَها، بحركة غير معهودة الرِّقة، كان "ف ه د ف ه د" يُخرج القيثار من عمق المركب ويحمله إلى زوجته. وكانت تجد نفسها مضطرّة إلى أخذه منه وعزف بضع نغمات. فلا شيء كان يُمكنه أن يفصلها عن الأصمّ مثل أصوات القيثار. وكنتُ أنا أُطلق لحنجرتي العنان صادحاً بهذه الأغنية الحزينة: «كلّ الأسماك اللمّاعة هي فوق الأمواج / فوق الأمواج / وكلّ السّمك الدّاكن هو في القعر / في القعر...» وكلّ الآخرين، باستثناء ابن عمّي، كانوا يُرَدّدون معي، مثلما جوقة. في كلّ شهر، وبمجَرَّدِ ما يكون القمر قد شَرَعَ في الابتعاد، كان الأصمّ يعود إلى انعزاله المُحتقِر لأشياء هذا العالَم؛ ودُنُوُّ وقتِ اكتمال القمر وحدَهُ كان يَبُثُّ فيه الحيويّة. في تلك المرّة، تدبَّرْتُ أَمْري حتّى لا أُكَلَّفَ بالصّعود إلى الجِرْم الذي فوقنا، مِنْ أَجْلِ أَنْ أبقى في المركب، قُرْبَ زوجة القُبْطان. لكنْ، ما إن ارتقى ابنُ عمّي السُّلَّم ووصل إلى القمر، حتّى قالتْ السّيّدة "ف ه د ف ه د": "اليوم، أريد أنْ أَمْضي أنا أيضاً إلى الأعلى !" لم تكن زوجةُ القُبْطان قد صعدتْْ مِن قبل إلى القمر. لكنّ "ف ه د ف ه د" لمْ يَعْتَرِضْ على طلبِها، بل إنّهُ حَمَلَها بيديه ووضعها على السّلّم، وقال لها بصوتٍ جهير: « هيّا، اِمْضي !»، وبادرنا جميعاً إلى مساعدتها، وكنتُ أنا نفسي أسندها من الخلف، وأحسّ بها، بين ذراعيّ، حسنة الاستدارة وكاملة النّعومة، ولِأُحْسن إسنادها كنتُ أضغطها براحتيّ وبوجهي، وحين شعرتُ بها ترتفع نحو الكرة القَمريّة تَملَّكني أَسىً من جرّاء انقطاع تماسّها معي حَدَّ أَنّي رغبتُ في الانطلاق خلفها، ولذا قُلت: «سأصعد بدوري قليلاً لأمدّ يد المساعدة !» ولكنْ تمّ مَسكي بِشِدّة، كما بين فكّي مَلزمة. «ستبقى هنا، لأنّ لك أوّلاً شُغلاً هنا»، قال لي القبطان "ف ه د ف ه د"، آمِراً، مِن دون أن يرفع صوته. حتّى في تلك اللحظة، كانت نوايا كلّ واحد بيّنة. ومع ذلك، لَم أكن أستوعب كلّ الخفايا، بل إنّي لا أزال حتّى اليوم في شكٍّ من أنّي أوّلتُ كلّ شَيءٍ كما ينبغي. فلا شكّ أنّ زوجة القبطان كانت قد حضنتْ لوقت طويل رغبتها في أن تنعزل مع ابن عمّي (أو على الأقلّ ألّا تمكّنه من الانعزال مع لونا (القمر)؛ لكنّ الاحتمال الأقوى هو أنّ مخطّطها كان أكثر طموحاً، ولَرُبّما كانت قد بَلْورته باتفاق مع الأصمّ: أنْ يتخفّيا معاً في الأعلى ويبقيا شهراً كاملاً على سطح القمر. ولكنْ ممكنٌ أيضاً أنّ ابن عمّي، الأصمّ تماماً، لم يفهم شيئاً ممّا حاولت أن تشرحه له، أو أنّه، بِكلّ بساطة، لم يُدرك أنه كان موضوع شَبَقها. والقُبطان ؟ إنّه لَمْ يكنْ يتطلّعُ سوى إلى التّخلُّص من زوجته. هذا صحيح تماماً، فما إنْ صعدتْ إلى هناك حتّى رأيناه يتّبِعُ أهواءَ نَفْسِه وينغمس في الرّذائل، ووقتَهَا فَهِمْنا لِماذا لَم يَفْعَلْ شيئاً لاستبقائها. لكنْ، هل كان على عِلْمٍ، منذ ذلك الوقت المُبَكّر، بأنّ مَدار القمر كان في اتّساعٍ مُطَّرِد ؟ لَمْ يَكُنْ وارِداً أنْ نعْتقد في شيء كهذا. والذي كان يُمكن أنْ يكون على علم بمثل ذلك الأمر هو الأصمّ، والأصمّ وحده: فبطريقةِ الأشباح التي كان يعرفُ بها الأشياء، سيكون ولا شكّ قد استشعرَ أنّ تلك الليلة هي التي كان ينبغي له خِلالها أنْ يُوَدِّعَ لونا (القَمَر). ولذا فإنَّهُ كانَ يتخفّى، وهو في الأعْلى، في أماكن مجهولة مِنْ قِبَلِنا، وَلَمْ يُعاود الظّهور إلّا لِيعودَ إلى المركب. وكانتْ زوجةُ القبطان قد جَهَدَتْ في البحث عنه على القمر، فرأيناها تجوسُ مرّاتٍ عِدّة بين الحراشف، في هذا الاتّجاه ثمّ في ذاك، قبل أنْ تَتوقّفَ وتنظرَ إلينا، نحنُ الذين بقينا في المركب، تماماً كما لو أنّها على وشك أن تسألنا إنْ لمْ نكنْ قد رأيناه. حقّاً، وَقَع شيء خارجٌ عن المألوف في تلك الليلة. فسطحُ البحر، رغْم أنّه كان منتظمَ الانبساط كَحَالِه حين يكون القمرُ بَدْراً، تقوّسَ قليلاً نحو السّماء، وبعدها أَصْبَحَ بادِيَ الارْتِخاء، بل رَخْواً حقّاً، كما لوْ أنّ مغناطيس القمر كفَّ عنْ ممارسة مفعولِه عليه. ثُمَّ إنّ الضَّوءَ صار يبدو كالمُخْتلفِ عمّا كان عليه في أوقات اكتمال القمر في الماضي. والرّفاقُ الذين كانوا هنالك في الأعلى، لا بُدّ أنّهُم، بِدورهم، أدركوا أنّ شيئاً ما كان يحدث، فقدْ وجّهوا صَوْبَنَا عيوناً مُرْعَبَة. وفي نفسِ اللحظة، ارتفَعَتْ عقائرُهُمْ وعقائرُنا بِنَفسِ الكلمات: «إنّ القمر يَرْحل !»
لم تَخفت تلك الصّرخة حتى ظهر ابنُ عَمّي وهو يجري. لم يبدُ عليه أنّه خائف، ولا حتّى مُباغَت: بل إنّه وضع كفَّيه على أرضيّة القمر وتشقلب بالطّريقة المعهودة لَدَيم. لكنّه، في هذه المرّة، إذ ارتفع عن أَديم القَمر، بَقي مُعلّقاً في الهواء، كما كان قد وقع مِن قبل للصّغيرة "س ل ت ه ل س"، ولِلحظات، قام بما يشبه التحليق بين القمر والأرض، ثمّ تشقلب، وبحركات من ذراعيه، كَمَن يسبح ليتغلّب على تيّار، بدأ يتوجّه، بأناة غريبة، نحو كوكبنا.
مِن فوق سطح القمر، سارع البحّارة إلى اتّباعه في ما فعل. لا أحد كان يُفكّر في أن يُرسِل إلى المركب الحليبَ القمريّ الذي تمّ اجتناؤه، والقبطان نفسُه أهمل هذا الأمر. فانتظارنا كان قد طال أكثر ممّا ينبغي، ولم يعد سهلاً قَطع المسافة من سطح القمر إلى الأرض؛ مع هذا، حاولوا تقليد تحليقِ - أو سباحةِ - ابن عمّي، وبقوا يحركون أطرافهم كيفما اتّفق، مُعَلّقين وسط السّماء.
- تجمّعوا! أيّها البُلَهاء! تَجمّعوا ! زَعَق القُبطان.
إِثْرَ تَوَجُّهِه بِهذا الأمر إليهم، حاول البحّارة التّجمّع وتشكيلَ كُتلة واحدة، لِيرتموا مجتمعين حتّى يستطيعوا الوصول إلى منطقة الجاذبيّة الأرضِيّة: هكذا هوتْ، فجأةً، إلى البحر أجسادٌ توالتْ بِسُرْعة، وسُمِعَ دَوِيُّ ارتطامها بالمياه.
لحظتَها، حَرَّكتِ المجاذيفُ القواربَ، ومضت لانتشال البحّارة من المياه.
- انتظروا ! السّيّدة ليستْ معهم ! قُلْتُ أنا بصوتٍ جَهوريّ.
كانت زوجة القبطان قد حاولتْ بدورها أن تَقفز، لكنّها كانت قد بقيت في الهواء، على بُعد أمتارٍ مِن القَمر، وكانت تُحَرِّك بفتور يديها الطّويلتين فِضّيتي اللون. صعدتُ السّلّم وعلى أمل أن أمنحها نقطة ارتكاز، مددتُ القيثار في اتّجاهها، لكنْ بلا جدوى. «أمر مستحيل ! ينبغي الذّهاب لِجَرّها !»، وقمتُ بحركة إقلاع شاهراً القيثار. فوقي، بدا أنّ القرص القمريّ الهائل لم يعد كما كان، إذ كان قد صَغُر كثيراً، وها هو لا يكفّ عن الانكماش أكثر فأكثر، كَما لو أنّ نظرتي كانت تدفع به إلى البعيد، وكانت السّماء الفارغة تنفتح شديدةَ الكِبَر، مثلما هاوية تتكاثر في قعرها النجوم بلا توقّف، والليل يَقلب على رأسي نهراً من الفراغ ويغمرني بالدُّوار والاضطراب.
«أنا خائف ! فكّرتُ. خائف جِدّا، فأنَّى لي أن أمضيَ قُدُماً. أنا جبان!» وفي ذلك الحين، كنتُ أَتَقدّم. وباهتياج، كنت أقوم بحركاتِ سابحٍ عبر السّماء، مادّا القيثار صَوْبها، وعِوَضَ أنْ تَأتي لملاقاتي، كانت تدور حول نفسها وتُريني وجهها الخالي من الانفعال آناً، وعجيزتها آونة أخرى.
«فلينضمّ الواحد منّا إلى الآخر !»، صِحْت، وسرعان ما وصلتُ إليها، وأمسكتُ بها آمِلاً أنْ أبقى مُمسكاً إيّاها مَدى الحياة، ولففتُ ذراعيَّ وساقيّ على ذراعيها وساقيها. «لنتّحدْ ونَنزل معاً!»، قُلت، واستجمعتُ كامل قواي لأتمازج معها أكثر فأكثر، ولأتذوّق التكامل الناجم عن تلك الضّمّة، إلى حدّ أنّي انتبهتُ متأخِّراً إلى كوني حقّاً أخرجتها من مجال اللاجاذبيّة، ولكنْ لأجعلها تعود إلى سطح القمر. لم أنتبه لذلك، أم تُرى ذلك كان قصدي، ومنذ البداية؟ قبل أن تتشكّل لديّ فكرة ما، انبثق من حنجرتي، بصوت جهير: «سأكون أنا من يبقى معك شَهراً كاملاً!»، وأضفتُ، باهتياج: «فَوقَك ! أنا فوقك مُدّة شَهر !». وفي تلك اللحظة، حدثت السّقطة على سطح القمر، وفَصَلتْها عنّي، وقذفتْ بنا إلى مَكانين مُنفصلين بين الحراشف الباردة. نظرتُ إلى أعلى كما كنتُ أفعل في كلّ مرّة أُلامس فيها قِشرة القمر، وأنا على أتمّ يقين بأنّي سأجد فيما فوق البحرَ، وهو مسقط رأسي، مثلما سقف مَهول الامتداد، ورأيته، نعم، رأيته هذه المرّة، لكن على علوّ أكبر بكثير من المعهود، ضيّقاً بين ما يَحدّه من تخوم وصخور ونتوءات صخريّة، ولَكَمْ كانت القوارب تبدو صغيرة، ووجوه رفاقنا متمايزة، وصرخاتهم خافتة ! ووصلني صوت قريب جِدّاً: كانت السّيّدة "ف ه د ف ه د" قد عثرت مُجَدّداً على قيثارها، وكانت تُداعبه، مبتدئةً نَغماً حزيناً كالنّحيب.
وبدأ شهر طويل. كان القمر يدور حول الأرض في تُؤَدة. وعلى الكرة شِبه المُعَلّقة، لم نعدْ نرى ضِفّتنا المألوفة، بل أعماقَ المحيطات التي بدت لنا كهاويات، وصحارى الأحجار البركانية الملتهبة، وقارّات الجليد، والغابات التي تعجّ بالزّواحف، والواجهات الصّخريّة لسلاسل الجبال التي تَبريها شَفرات الأنهار الجارفة، والمدن المُنشَأة على بُحيرات، ومدن الأموات ذات الصخور البركانية الأصل، والإمبراطوريات المبنيّة بالصّلصال والملاط. وبُعْد هذه الأشياء عنّا كان يُسبغ عليها لوناً واحِداً؛ وكنّا نراها من زوايا غير معهودة، فكانت الصُّوَر تكتسب غَرابة عجيبة: فقطعان الفِيَلَة وأسراب الجراد التي تعبر المروج كانت تبدو لنا منتشرة بنفس الصّورة ولها نفس الكثافة والسُّمك، حدّ أننا لم نكن نستطيع التمييز بين هاته وتلك.
كان ينبغي أن أكون سعيداً: فمثلما كان يحدث في أحلامي، كنتُ وحدي معها؛ فالعلاقة الحميمة مع القمر ومع السّيدة "ف ه د ف ه د"، التي طالما حُسِد عليها ابنُ عمّي، أضحيت الآن مستأثِراً بها لِوحدي، وكان هنالك شَهر من الأيّام والليالي القمريّة أمامنا، وقِشرة القمر كانت تُغذّينا بحليبها ذي الطّعم الحامض والأليف؛ كانت أبصارنا ترتفع إلى أعلى، نحو العالم الذي وُلِدنا فيه، الذي كنا أخيراً نراه في كلّ امتداده المتنوّع، ونستكشف مشاهد منه لم يراها من قَبل كائن أرضيّ؛ أو، على العكس تماماً، كنّا نتأمّل النّجوم، فيما وراء القمر، والتي كانت في حجم حبّات فاكهة من ضوء، ناضجة على أغصان السّماء، المُقَوّسة، وكلّ شيء كان يتجاوز الآمال الأكثر إشراقاً، ومع ذلك، مع ذلك، كنتُ، حقّاً، أعيش في منفى.
لم أعد أُفَكّر إلّا في الأرض. فالأرض هي التي تجعل مِن كلّ واحدٍ فَرداً ما، وليس الآخرون؛ هنا، مُقتلعَين من الأرض، فكما لو أنّي أنا نفسي لم أَعُد هو أنا، وكما لو أنّها هي لم تَعُد هي. كنتُ قلقاً مُتشَوِّفاً إلى العودة للأرض، وخوفي من أن أكون فقدتُها كان يجعلني أرتعش. فحُلمي الغراميّ لم يدم سوى اللحظات التي كنّا خلالها مُتضامَّين، متدحرجين فيما بين الأرض والقمر؛ وفي غياب سطح الأرض، لم يعد شعوري العاطفيّ سوى حنين إلى ما كان ينقصني: أين أنا، ماذا حواليّ، ماذا قبل الآن، ماذا بعد الآن.
هذا ما كنتُ أنا أشعر به. وهي؟ إذْ كنتُ أطرح السّؤال على نَفسي، كانت مخاوفي لا تنقشع. فإذا كانت هي، مثلي، لا تُفَكِّر إلّا في الأرض، فذلك قد يكون مِن حسن طالِعي، أيْ أنّه علامة على تفاهم مؤكّد مرتقَب، لكنْ يُمكن أن يعنيَ ذلك أنّ كلّ ما أمَّلْتُه ذَهب سُدىً، وأنّ مقصد رغباتها هو الأصمّ. لكنّها لم تكن تُفكّر مثلي بتاتاً، فهي لا ترفع قطّ بَصرها نحو الكوكب العجوز : شَاحبةً كانت تمضي عبر تلك الأراضي القمريّة البور، مغمغمة بأشجانها ومُداعبةً قيثارها، كأنّها تتماهى مع وَضعها القمريّ المؤَقّت (هكذا كنتُ أحسبه، على الأقلّ). أكان ذلك علامةً على أنّي انتصرتُ على غريمي؟ كلّا، كنتُ قد خسرت، ولا أمل بقي بعد تلك الخسارة. ذلك أنها كانت قد فهمتْ أنّ حبّ ابن عمّي لم يكن مُوَجّهاً إلّا للقمر، وكلّ ما كانت تطمح إليه بعد ذلك هو أن تُصبح قمراً، أن تتماهى مع موضوع ذلك الحبّ المتجاوز لما هو بَشريّ.
وإذ أكملَ القمرُ دورتَه حول كوكب الأرض، ها نحن نجد أنفسنا من جديد فوق "صخور الزّنك النّاتِئة". وقد ارتعشتُ حِين أمكنني التّعرّفُ عليها: فحتّى في أشدّ توقّعاتي سُوءاً، لم أكن أحسب أنّي سأراها وقد صغُرتْ إلى ذلك الحدّ بسبب البُعد. ففي تلك البِركة من ماء البحر، كان رفاقُنا قد عادوا إلى ركوب القوارب، ولكنْ مِن دون السّلالم والرّكائز التي لم تعد إليها حاجة؛ لكنْ كان يَرتفع مِن المراكب ما يُشبه رِماحاً متشابكة : فَكُلٌّ كان يرفع عصاه إلى أعلى، جاعلاً في طرفها صنّارة أو خُطّافاً، آمِلاً ربّما أنْ يَكشط بها قليلاً من حليبٍ قَمريّ أخير، أو أنْ يُقَدّم لنا، نحن التّعيسَيْن اللذين في الأعلى، عوناً ما. لكنْ سرعان ما ظَهر أنّ تلك العِصِيّ لم تكن بالطّول الكافي لتلامس القمر، ولِذا كانت تَسقط، مُضحكةً بِقِصَرها، تافهةً، وتتهزهز على سطح البحر. وفي خِضمّ تلك البلبلة، فَقَدَ مركبٌ توازنَه وانقلب. في ذلك الوقت بالضّبط، بدأت ترتفع عَصاً أطول، كانتْ قد جُرَّتْ على سطح الماء حتى ذلك المكان: لا شكَّ أنها كانت من خَيزران، أو لعلّها كانت قَصباتِ خيزران كثيرة جِدّاً وُصِلتْ بِبعضها، ومن أجل مدّها إلى أعلى كان ينبغي السّير بها بأناة حتى لا تَجعلها التّأرجحات تنكسر، كما كان يَجب أن تُحَرَّك بقوّة ومهارة كبيرتين، لكي لا ينقلب المركب تحت ثِقَلها العموديّ الاتّجاه. وهذا ما حدث: لقد مَسّ رأسُ تلك القصبات المتداخلة القمر، وكنّا نرى رأسها ذاك يضغط على أرضـيّـة القمر المحرشَفة، مرتكِزاً عليها آناً، راطماً إيّاها بشكل طفيف بعد ذلك، ثمّ بقوّة تجعل طرف القصبات يميل ويبتعد عن القمر، قبل أنْ يَعود في اهتزازة جديدة ليرطمَه، ثمّ يبتعد من جديد. وقتها تعرّفتُ عليه؛ بل تعرّفنا عليه نحن الاثنين، السّيّدة وأنا : إنّه ابن عمّي. ما كان ممكناً أنْ يكون إلّا هو، وبالفعل كان هو الذي يَلعب مع القمر لعبة أخيرة، جاعلاً القمر على رأس قَصباته تلك كما لو أنّه هو من يحافظ له على توازنه. وقد رأينا وأدركنا أنّ ما يقوم به كان بلا مثيل، فهو لم يكن يتوخّى الحصول على أيّ نتيجة عَمليّة، بل بدا أنّه كان يودّ إبعاد القمر ويرغب في انصرافه ومرافقته على مداره الذي سيكون قد كبُر. وكان متلائماً مع نفسه، فهو لم يكن قادراً على أن تكون له رغبة مُعارضة لطبيعة القمر ومساره ومصيره: فإذا كان القمر ينزع الآن إلى الابتعاد عنه، فهو سيستمتع بهذا الابتعاد مثلما استبعد حتّى الآن بالتقارب معه. في هذا الوضع، ما المُنتظر من السّيّدة "ف ه د ف ه د"؟ لقد أبانت، في ذلك الوقت بالضّبط أنّ حبّها للأصَمّ لمْ يَكُنْ نَزوَةً عابرة، بِقَدْرِ ما كان تَعَلّقاً نَذَرَتْ لهُ نفْسَها بلا رِجْعَة. فَإِنْ كانَ ابْنُ عَمّي يُحِبُّ القمر الذي أضْحى بعيداً عنه، فهي بِدورِها ستبقى بعيدةً، هنالك على سطح القمر. لقد فهمتُ هذا حين لاحظتُ أنّها لا تقوم بأيّ خطوة نحو رأس قصبات البامبو، بل كانت تمدّ قيثارها صوب الأرض فحسب، رافعةً إياه إلى أعلى، وناقرةً أوتاره. لقد رأيتُها تفعل ذلك بِطَرف عينيّ فحسب، ذلك أنّي، بمجرّد ما لمس رأسُ القصبات اللِّحاء القَمَريّ، قمت بقفزة في اتّجاهه لأتشبث به، وها أنا، بسرعةِ ثعبان، أتسلّق تلك القصبات بفضل عُجَر البامبو، أصعد باهتزازاتٍ مِن ساعديّ ورُكبتيّ، خفيفاً في الهواء قليلِ الكثافة، كأنّما تدفعني قُوّة طبيعيّة آمرةً إيّاي بالعودة إلى الأرض، وقد نسيتُ الدّافع الذي جعلني أصعد إلى القمر، أو لَربّما كنتُ شديدَ الوعي به وبالمآل التعيس لمسعاي، وكنتُ قد تسلّقتُ القصبات، التي كانت تتمايل، حتّى نقطة لم يعد عليّ فيها أن أبذل أيّ جهد، إذ أَصبح كافياً أن أترك نفسي أنزلق ورأسي في المقدّمة، والأرض تجتذبني، وهكذا إلى أن تهشّمت القصبات إلى مئات القِطع وسقطتُ أنا في البحر، بين المراكب.
استطابَتْ نفسي العودة إلى الدّيار؛ وبقيتْ لي ذِكْرى وحيدة أليمة، ذِكْرى تلك التي فَقَدْتُ، فعيناي كانتا تتسمّران، بحْثًا عنها، على القمر الذي أصبح الوصول إليه مُسْتحيلاً. ورأيْتُها. كانتْ هنالك حَيثُ تركتُها، مُمَدَّدَةً على شاطئٍ يُوجَد بالضّبْط فوقَ رؤوسِنا، ولم تكنْ تتفوّه بكلمة. كانتْ في لَوْنِ القمر؛ وكانت تُمسِكُ القيثار، مُسْنِدَةً إيّاه على خصْرِها، فيما تُحَرِّكُ إحْدى يديْها لتعزفَ نغمات مؤتلفة، بطيئة وقليلة. كان صَدْرُها واضِحَ المعالم، وكذلك ذراعاها وكَشْحاها، وعلى هذه الصّورة ما أزالُ أتَذَكّرُها حتّى اليوم، بعد أنْ تحوّلَ القمرُ إلى هذه الدّائرة الصّغيرة، المُسَطّحة والنّائية؛ وأنا ما زِلْتُ أبْحثُ عنها بعينيّ، عنها هي، منذُ أنْ يَظهرَ في السّماء الهلالُ الأوّل، وبقدْرِ ما يكبُر، أتخيّلُ أنا بشكلٍ أقوى أنّي أراها، هي، أوْ بَعْضًا منها، لكنْ لا شيءَ غيرَها، إنّما هي، في مئات المظاهر المُخْتلفة، هي التي تجعلُ القمرَ قَمَراً والتي، كلّما أَصْبَحَ هذا الأخيرُ بَدْراً، تَدفعُ الكلابَ إلى أنْ تَهِرَّ طول الليل، وتجعلُني أُشارِكُها الهَرير.
ــــــ ــــــ ـــــــ ـــــــ ـــــــــ ــــــــــــ
لُونا: القمر بالإيطالية، والاسم مؤنّث.