في صحيفة الاتحاد الاشتراكي (عدد يوم 28 - 08 - 2023) :
( المقال في صحيفة الاتحاد الاشتراكيّ : رابط )
"وديعة خُفاف"، الكتاب النثري الجديد لمبارك وساط : استعادة لذكرى مستودعة !
كتاب "وديعة خفاف" شاعريٌّ؛ مادتُه الشعر، لغة، أفكارا ووشائج، وهو امتداد لأرخبيلات مبارك وساط، وشيءٌ من مواصلته تتبع الشعر في تخومه المفتوحة. فلم يعد ثمة معنى لزجر تخطي حواجز الأنواع. لأن الشعر يتأسس حيث نمنح له فسحة للانطلاق. وينساب قويا والشاعر يكتب نثرا. ولعل كتاب "وديعة خفاف" هو في الواقع رزنامة أوراق فارس، هذا الذي عاد ليَرِد من نبع الماضي في أقداح الذكريات؛ فالشاعر لا يسرد لنا أحداثا، بقدر ما يجرب ماكينة الذاكرة، ويطّلع في ذهول على خوارقها الكثيرة.
«الذكريات ريح، تختلق الغيوم» أو تخترعها، هي التعزيمة الفاصلة بشأن كتاب وساط. لأن هذا الاقتباس، تحديدا، من سوبرفيال، له، في اعتقادي، أهميته في فهم انبثاق هذا العمل الأدبي وصياغته. لأن الذكريات مادة تتنامى، وكأنها ريح تختلق غيوما؛ بقدر ما تتناسل عناصر جديدة من الغيوم التي تدفعها الريح، فللريح أوطار شتَّى في الأمر، وإن اقتضى الحال أن تختلقها من عَدَمٍ وتخترعها. الذكريات هنا أوراق فارس، التي تدفعها ريح الكتابة.
ذِكرُ نص بيوغرافي يُكتب في الكتاب تلك الأثناء هو: ما "[…] أجج ذكريات من تلك الأيام، قابعة في أعماق ذاكرة فارس" ؛ فهو يتناول مرحلة حياتية مشتركة بين باقي زملائه؛ وما أدراك ما مرحلة التكوين!
وقد رُوعيت في يوميات فارس ضوابط الدقة الزمنية؛ في تبيان الوقائع التي طرأت خلال فرشة محددة تقويما، وحصرا للأمكنة. ما يضفي على شعرية النص، مصداقية السياق وصدق الإحساس. فجُعلت القراءةُ تتأرجح، بالتالي، بين ضرورتين أساسيتين هما إرادة تثبيت جمال فني معين، وحرص ظاهر على نية تأريخ وحفظ خاص لذاكرةٍ لها مسوغاتها.
في نصّ مبارك وساط حشد هائل من الشخصيات الثانوية والتي تتقاطع معها مصائر الشخصيات الأساسية. ولعل شخصية وديعة هي عنصره المركزي. إن لم نقل الوجه الذي أضاءت ذكراه ببهائها ذاكرة فارس "وإن تكن ذكرى وديعة مستودعة بشكل راسخ في أعماق نفسه ". يشد عصبٌ واحدٌ حكاية مبارك وساط التي تتوزعها بؤر كثيرة ومتشعبة؛ إنه الاستعادة، بما فيه استعادة وديعة خفاف؛ يتساءل فارس: "كيف يحدث أنِّي أرى وجه وديعة بوضوح في هذا الصباح بالضبط؟". ولأن زمن الكتابة هنا لا يعني بالضرورة زمن النص، فإن التحديد الزمني المثبت في فصول الكتاب ليس، في ظني، كتابةً ليومياتٍ في حينها. بقدر ما نتخيل استعادة لاستعادة، أو، بالأحرى، تذكر لذكرى مستودعة. لا تتجاوز المدة الزمنية التي تغطيها أسبوعا كاملا. تطرق فيها الكاتب وسارده والشخصيات الأخرى المتناوبة على السرد لهموم جيل بأكمله. بالعودة إلى سنوات السبعينيات وحلم التغيير المجهض، والذي رَاوَد مناضلي تلك الفترة من التاريخ السياسي للمغرب.