مبارك وساط
"وَعْدُ جولييت" ـ LA Promesse de Juliette ـ : هو عنوان كتاب للشّاعر والكاتب المغربيّ مصطفى فهمي، وهو مكتوب بالفرنسيّة ومَنشور في كيبيك (بكندا) في 2021. وقرّاء الشِّعر المغربيّ يعرفون اسم مصطفى فهمي، مِن خلال مجموعتيه الشِّعريّتين المكتوبتين بالعربيّة (آخر العنادل، 1978 - قصائد من الشَّمال، 1997)، والمهتمّون بأعمال شكسبير يعرفونه باحثاً متخصّصاً في تلك الأعمال، وأستاذاً للأدب الإنجليزي في جامعة كيبيك. وهو ينشر أبحاثه المتعلّقة بشكسبير، باللغة الإنجليزية.
مِن جِهة ثانية، ليس "وَعد جولييت" هو أوّل كتاب لمصطفى فهمي باللغة الفرنسيّة، بل سبقه، بهذه اللغة أيضاً، كتاب عنوانه : "دروس روزاليندا" (2018)، وتلاه آخر : "جمال كليوباترا" (2025).
ما هو بيّن مِمّا ذكرناه، هو أنّ شكسبير يُشكّل مركز اهتمام مصطفى فهمي، ومنظلق أبحاثه ومُرتَكزَها. فالأسماء الثلاثة الواردة في عناوين الكتب الصّادرة له بالفرنسيّة هي لشخصيّات من مسرحيّات لشكسبير. بل إنّ اهتمام مصطفى فهمي بالكاتب المسرحيّ والشّاعر الإنجليزي الشّهير قديم لديه، إذ إنّنا نجد أنّ عنوان أوّل قصيدة في "آخر العنادل" هو "أوفيليا"، وأنّ قصيدة أُخرى مِن نفس الدّيوان تحمل عنوان "هاملت"...
تجتمع في كتاب "وَعد جولييت" صفات السّهولة والعُمق والشّاعريّة، وهي نادراً ما تجتمع في كتاب فِكريّ-أدبيّ هامّ مثل الذي نتحدّث عنه. واختيار مصطفى فهمي لهذا المسلك في الكتابة ناجم عن قناعة شَخصيّة، مفادها أنّ الاهتمام بالأدب ينبغي ألّا ينحصر في فئات المتخصّصين، وبالفعل، أفَلَم يكن لمسرح شكسبير جمهور تجد فيه ذوي ثقافة وباعة متجوّلين وعاطلين وربّما بعض صغار اللصوص أيضاً ؟
يحمل القسم الأوّل من الكتاب عنواناً يمكننا أن نُترجمه كالتّالي : زوايا نَظَر. وأوّل فصوله موسوم بالتّساؤل التّالي : هل يَجدر دائماً بحقيقة ما أن تُقال ؟ فما نجده في مسرحيّة "الملك لير" (لشكسبير طبعاً) هو قصّة ذلك الملك البريطاني الذي اتّخذ قراراً فاجأ به الجميع، وهو بأن يُقَسِّم مملكته بين بناته الثلاث : غونريل، ريغان وكورديليا. ولِيُعلن قراره ذاك، استدعى للحضور حاشيته وأصدقاءه وأفراد عائلته، إضافة إلى شخصين ذَوَي مكانة رفيعة جِدّاً : ملك فرنسا ودوق بورغونيا. وقد برّر قراره الخطيرذاك بعامل السِّنّ، معتبراً أنّه شاخ إلى حدّ لم يعد يستطيع معه إدارة شؤون الدّولة. لِذا ارتأى أن يُنيط بتلك المهمّة "قوى شابّة". لكنّه، قبل أن يقوم بعمليّة التّقسيم، طلب من بناته الثّلاث أن يتقدّمن أمام الحاضرين لتُفصِح كلٌّ منهنّ عن مدى حُبِّها له، وبالمقابل، ستحصل كلّ منهنّ على قسم من المملكة يتناسب حجمه مع ما تُكنّه لأبيها مِن حُبّ. تكلّمت غونريل في البداية، وقالت لأبيها ما كان يرغب في سماعه، ثمّ تكلّمتْ ريغانْ وزايدتْ على أختها. وارتاح الملك لما سمعه، فحدّد لكلّ منهما الجزء من المملكة الذي سيصبح تحت إمرتها، ثمّ التفت إلى كورديليا، أصغر بناته وأعزّهنّ عليه، فسألها عمّا ترغب في قوله حتّى تحصل على قسط أهمّ ممّا حصلتْ عليه كُلٌّ مِن أختيها. أجابت كورديليا : "لا شيء، يا مولاي". اندهش الملك لير مِمّا سمع، فكرّر عليها السّؤال، لكنّ جوابها لم يتغيّر. شعر الملك بخيبة أمل كبيرة، وحاول من جديد دفعها للكلام. قال لها "لا شيء يُحَصَّل من لا شيء. قولي شيئاً". بقيت كورديليا على موقفها، وكلّ ما أكّدته للملك هو أنّها تُحبّه مثلما يُحِبّ شخص أباه، لا أقلّ ولا أكثر. وأضافت أنّها حين تتزوّج، فزوجها سيشغل ولا شكّ مكاناً مِن قلبها، متسائلة عمّا يعنيه أنْ يكون لكلّ من أختيها زوج، إن كانتا لا تحبّان إلّا أباهما. وحين يستغرب الملك من كونها "صغيرة السّنّ وقليلة الحنان"، تجيبه بأنّها "صغيرة السّنّ وصادقة". كلّ هذا سيدفع الملك لير إلى السّخط على كورديليا وحرمانها من أيّ جزء من مملكته التي سيقسّمها بين أختيها فحسب... ومَن يقرأ مسرحيّة "الملك لير" حتّى نهايتها، سيكتشف أنّ الأختين المتملّقتين ستنقلبان على أبيها، وأنّ كورديليا هي التي ستسانده حين تسوء أحواله... وسنجد في "وعد جولييت" تتبّعاً لأحوال لير... لكنْ، لنعد الآن إلى ما قالته كورديليا عن مدى حبّها لأبيها.
فبعد أن يُعيد مصطفى فهمي إلى أذهاننا ما وقع بين ذلك الملك وبناته في بداية المسرحية المذكورة، يُعَقِّب بما يلي : "إنّ كورديليا تنتمي إلى ذلك الصّنف من النّاس الذين يعتقدون أنّ الحقيقة خليقة دائماً بِأن تُقال، مهما تكن الظّروف، ومهما تكن المُجازَفة. وهذا يُذَكّر بموقف الفيلسوف الألمانيّ إيمّانويل كانط". فهذا الفيلسوف كان يعتبر أنّ الحقيقة يجب أن تُقال مهما تكن الظّروف ومهما تكن المجازفة التي تتمثّل في قولها. ولكنّ ما ينتهي إليه مصطفى فهمي هو التّالي : "إنّ موقف كورديليا وَرَدَّ فِعل الملك لير يُؤكّدان أمرين في نهاية المطاف : أنّ الحقيقة ليست دائماً خليقة بأن تُقال، وأنّ التّصرّف الأخرق لا تُبَرِّره النّوايا الحَسَنة". هذا فيما يخصّ العلاقات بين الأفراد بالطّبع. وفي هذا الصّدد، يُورِد مصطفى فهمي قولة لنيتشه ، مفادها أنّ الحِسّ الإنسانيّ يتبدّى، في أهمّ تجلّياته، في تَجنيب شَخص ما الشّعور بالعار أو بالمهانة.
سيُصدَم لير من تصرّف ابنتيه تجاهه لاحقاً. فسيكون قد احتفظ بلقب "ملك" وبمائة فارس مرافق، لكنْ إلى متى سيتمكّن من المحافظة على أولئك الفرسان المائة وابنتاه لا تحبّذان بقاءهم كمرافقين له ؟ وما جدوى احتفاظه بلقب "ملك" من دون سلطة تُذكَر ؟ وحين يَسأل لير مُدير قصره : "مَن أنا ؟" ويُجيبه هذا الأخير : "أنت والد سيّدتي"، سيشعر أنّه أُهين. ويعتبر صاحب "وعد جولييت" أنّ شكسبير يُلامس ها هنا ما نسمّيه في أيّامنا ب"مسألة الهُوّية"، منتهياً إلى القول بأنّ الشّيء الوحيد الذي يستطيع المرء أن يَعرفه عن نفسه، هو ما يريد هو أن يكون".
في هذا الكتاب، نجد مصطفى فهمي "يستدعي" فلاسفة وأدباء، مستطلعاً رأي هذا وذاك في مواضع وتيمات ترتبط بمجال بحثه، الذي يكتسب سعة وعمقاً كلّما تقدّم فيه. من الأسماء التي تتمّ محاورتُها في "وَعد جولييت"، نذكر : أرسطو، كانط، هيدغر، سارتر، سيمون دي بوفوار، دانتي، تشيكوف، حنّا آرِنْت....
وماذا عن "وَعد جولييت" ؟ إنّه عنوان الكتاب وعنوان أحد فصوله أيضاً. في بداية هذا الفصل، نقرأ أنّ روميو حين جاء لحضور حفلٍ ما، كان يتشوّق لرؤية روزالين، التي كان يُحِبّها وقتها، لكنّه لن يرى هذه الأخيرة رغم وجودها في الحفل، بل إنّه سيرى شابّة تتميّز عن الأخريات بشكل قويّ... تلك كانت جولييت. ومعلوم أنّ علاقة الحُبّ بينهما لن تدوم سوى أسبوع، وبعده سينتحران، لأنّهما لم يستطيعا البقاء معاً. "فالذي لا يتقبّله الشّابّان هو أن يُحرما مِن كلّ ما تخيّلا أنّهما سيعيشانه معاً. وهما لم يَتّخذا قرارهما المُحزن لكونهما لن يستطيعا الاستمرار في عيش لحظات سبق لهما أن عاشاها، بل بسبب وَعد بالسّعادة لم يتحقّق لهما". ومثل ذلك الوعد ينبثق، بحسب الكاتب، من "الالتقاء بالجَمال", وليس المقصود بالجمال هو مظهرٌ ما تلتقطه العين ويكون منسجماً مع معايير إستطيقيّة مُعيّنة، بل هو أرهف من ذلك...
ونشير إلى أنّ مصطفى فهمي كان قد شَرَع في كتابة "وَعْد جولييت" وهو منعزل عن الآخرين قَسراً، إذ إنّه كان مُصاباً - وقتها - بالكوفيد المشؤوم. ولا شكّ أنّ انشغاله بكتابه هذا الكتاب قد سَاعده على تجاوز مرحلة صعبة في حياته، بأجمل الطُّرُق.