سنيّة صالح
تقديم :
مَن يقرأ لسنيّة صالح ويَخلق ألفة مع عالمها الشِّعريّ، ويُصبح على دراية ببعض ما خَبَرته في حياتها من عناء ومعاناة، فسيتكوّن لديه اليقين بأنّها ذات مكانة عالية على صعيد الإبداع الشِّعريّ، وأنّ شِعرها متفرّد، شديد الارتباط بعوالمها الدّاخلية وحياتها، يشقّ طرقه الخاصّة، وأنّ الحياة لم تكن رحيمة بها، وأنّها، مِن جهة أخرى، لم تَنل ما تستحقّه من الإنصات والاهتمام النّقديّ. فيما يخصّني، فإنّ الكلمات والتّعابير التي َتتشكّل في ذهني، سِرباً محلّقاً حول اسم سنيّة صالح، هي مِن قبيل: "شِعر شَخصيّ. طفولة حزينة. طفولة صامتة. معاناة. شعور بالمرارة، بالخذلان. رِقّة. مَرَض عُضال. انعدام السّنّد. وفاة مُبكِّرة. كتابة متميّزة. ارتباط وجوديّ بالكتابة".
وُلِدت سنيّة صالح، في بلدة مصياف بسوريا يوم 14 أبريل 1935 وتوفّيت بدمشق في 17 غشت 1985. أبواها هما : فاطمة شريف وخليل صالح. كما أنّ شقيقتها الكبرى معروفة لدى المهتمّين بأدبنا الحديث، فهي النّاقدة خالدة سعيد، زوجة الشّاعر أدونيس. وقد اقترنت سنيّة بمحمّد الماغوط، وأنجبا ابنتين: شام وسلافة (وبالمناسبة، فإنّها هي التي كتبت تقديماً لأعمال محمد الماغوط الشِّعريّة الكاملة).
قالت سنيّة صالح عن نفسها: "وُلِدتُ لأبوين عائدين مِن دَفن ابنهما الذَّكر الوحيد". وتُعلّق أختها على قولها هذا بالصّورة التّالية: "وتكون بهذا التّعبير قد ربطتْ ولادتها بِخيبة وفقدان" (من مقدّمة خالدة سعيد لأعمال سنيّة صالح الكاملة). كان الجَوّ العائليّ الذي عاشت فيه سنيّة صالح طفولتها صَعباً حقيقة، فهي لم تكن تتكلّم كثيراً بسبب إصابة أمّها بالصّمم، كما أنّ العلاقة بين أبويها كانت تتخلّلها مشاحنات ستنتهي بهما إلى الانفصال.وحتّى في حياتها الزّوجيّة، ورغم الحُبّ الذي جمعها بالشّاعر محمّد الماغوط، فقد كان هذا الأخير يتعامل معها أحياناً بعنف. ثمّ جاء دور السّرطان ليخرّب جسدها، ويجعلها تطرق أبواباً عِدّة فلا تجد سنداً، حتّى بادرت امرأة معروفة في سوريا آنذاك إلى دعمها لتسافر وتتلقّى العلاج في فرنسا، لكنّ ذلك العلاج لن يُجدي نفعاً كبيراً، فهي ستعود من فرنسا لتموت في دمشق.
من هذه المنطلقات، نتفهّم تماماً أن تقول سنيّة صالح : "أَطلق رصاصك أيّها العالَم، أطْلقه، أطلقه على جُثّتي، على أفكاري، أطلقه حيثُ تشاء"، وأن تقول أيضاً : ""عندما كلّمتُ الله أنكر صوتي. وصَفَق الباب. إنّ لِبابِ السماء صَدىً يَقْهر ويُذِلّ"...
لِسنيّة صالح (1935ـ 1985) المجموعات الشِّعريّة التّالية : الزّمان الضيق (1964)، حِبر الإعدام (1970). قصائد (1980)، ذَكر الورد (كتبته بأكمله في المستشفى بالضّاحية الباريسيّة، ونُشِر سنة 1988، بعد وفاتها بثلاث سنوات). ولها مجموعة قصصيّة واحدة، تحمل عنوان "الغبار" (1982). وفي سنة 2008، صدرت أعمالها الشّعريّة الكاملة عن دار المدى بسوريا، وقد كتبتْ مقدّمتَها خالدة سعيد.
من قصائدها :
حُطام النّافذة الوحيدة
لا تأتني الليلة كخفّاش حزين،
حاشراً رأسكَ بين حاجبيّ،
لقد أنكرنا بعضَنا ساعاتِ اليأس
والاندحار،
عبثًا يرتطم الوجهُ بالوجه
أو القلبُ بالقلب،
دعِ النّار في رقادها
أو لِتُشَتّتْها الرّيح حيثُ تشاء
لا شيء قادر أنْ يُدْفئ تَينك العينين
الباردتين.
جميعُ الجهات خانتني
ومتاعي ملموم تحت إبطي،
تثاءبْ... تثاءب...
علَّ ذلك الليل يمضي،
أنت تُسرعُ وهو يفوقك سرعة،
الوهنُ يفتك بك
وعزمه يشتدّ كالسّياط،
وهذا الضّباب الذي يحجبني عنك
ما هو إلا رمادُ حُبِّنا.
هات راحتيك يا قبريَ الأمين والذّكيّ
هات ظلامك،
أنا المرأة المُصابة بالذّعر.
طعنة واحدة وتغيب شمس الجسد
والرّوح.
البراري النائمة
البراري النائمةُ منذُ الولادة
يُوقِظُها كناريٌّ ضائع
والأشجارُ المتعَبةُ
ترفعُ سواعدَها المائيّة
لِطُيورِ الجَليد والبُحيرات.
الأشجارُ البائسة تَفرِشُ أحضانَها
لحَيْرةِ الأرضِ والخريف
لِغضبِ النّجوم وأحاديثِِها الطّويلة
عن السَّفَرِ والصَّقيع
تَستعرُ حصاتُكِ في القاع
أيّتها الذاكرةُ الحزينة
وتَلبسين المرارة
لكنّ المرأةَ التي تملكُ البكاءَ وحدَهُ
أسيرةٌ أبداً
فامنَحي عُريَكِ للجبالِ الخجولة
وارْفَعي مفاتِنَكِ
حيثُ السِّرُّ مَدفونٌ في كنائس الشّتاء.
رامبو الألف وبودلير العِشرون
(مقتطفات)
1
كان الشُّعراء يُفكّرون في الثّلوج
على قِمم كِلِمَنجارو
في الرِّياح على ضِفاف البُحيرات
يحلمون بالأميرات النّائمات مع قيثارتهنّ
تحت أشجار الأضاليا
أيّها الشّعراء
يا سائسي أعمارنا
النّار الأولى تَمنح من جديد
لآليّات العصر ومواقده،
الكشفَ البدائي
رامبو الألف وبودلير العشرون
جميعهم يَجرون في دمائنا
ونَهجم في اتّجاهات العالم كلّها
جُموعاً تنهش وتفترس
وتستعيد الجوع الخُرافيّ .
2
مساء الخير أيّتها الحزينة
وحدَك في الليل ومتعدّدة في النّهار
تظهرين بشكلك الهندسيّ
يُغطّيكِ رماد الوحدة
أَرقبك من نافذة المنفى
كي لا نفقد مجاذيفنا في الظّلام
أعود إلى عصورك الأولى:
قلبي، شعري وأحلامي
لا أجرؤ على عصيانها
5
لَو أنّ الكارثة تنشطر
وينبت عليها الشّجر والعشب الجميل
لو أنّ الملائكة تَخرج من الحِجار
والأحبّاء من شَفرة الفأس
لَو تجري أَعْظَم الأنهار فوق راحتي
لو يرتوي هذا الظمأ
6
امتطت الآلهةُ جِياد البُوتاسيوم
المطهَّمة
وعندما توقّفتْ على حافة نافذتي
دهشتُ
فجأة انفرط جسدي إلى نَمل صغير
وأخذ من الرّهبة يقرض بعضه البعض
ولما انتهى من كلّ شيء
أكملت الآلهة تَجوالها الملكيّ.
ورقةُ خريف
(مقتطف)
لا تأخذيني أيّتها الريح.
أبعدي أذرعك القاسية عني.
ما أنا إلا ورقة صفراء هشّة،
سقطت البارحة عن هذه الشجرة.
وها أنا أدور حولها
وأدور...
أستظلّ بها
وأحلم بالرّجوع إليها.
صَليل الأزمنة
في أيّ موسم حلّت الريح
ضيفًا على أشجارنا؟
في الشّتاء جاءت
وفي ذلك الشّتاء رحلتْ
كأمير مهزوم
يُجرجر رمحه
متهالكًا على الأشجار
يطلب مأوى.
البُحيرة
لأنّه حزين
ارتدى الأجراس المُلوَّنة
قناعًا للفرح
أوثق نوادره على طرف لسانه
كي لا تخونَه في اللحظة المناسبة
وسار بخفَّيهِ المُرَصَّعَين
وحيدًا كالليل
ولا نجوم بانتظاره
سوى عينيّ.
أيها الطائر المحلّق عبر الآفاق
تذكَّر أنّ الرّصاص في كل مكان.
تَذَكَّرْني
أنا المُسافرة الأبدية.
طوال حياتي أَغذّ السير
وما تجاوزت حدود قبري.
حَدقتان مِن العُشب
استلِمْ خطواتي
يا شارعَ السُّكون
وتسكَّعْ معي
ناشراً حِكاياتك النَّدِية
على المنكبين
قبل أن تُعربد الرّيح
على الرّصيف المهجور،
على القُمامات الليلية.
يا شارعاً مملوءاً بالبؤس والانتظار
ربما كنتَ ممرّاً صغيراً
إلى غابة الصّباح
تتثاءب في الليل
وفي النّهار
ومع الفجر تنشر أجفانك
كالأشرعة
فوق عينين من العُشب النديّ
أفكار صامتة
(مقتطفات)
أيّها السّيد
جئت أبحثُ مع حراسك وكلاب حدائقك
قضيَّة الجوع الذي أسكن
والذُلّ الذي أَلبس
والقامة التي فارقَتني،
وأشكو لبلاب الحُلم الذي لا يثمر
وذَكَر الورد الذي أهان أنثاه.
والهاويةَ التي يتربّصُ بي جنودها
عندما كلّمتُ الله أنكر صوتي
وصَفق الباب.
إنّ لِبابِ السماء صَدىً يَقهر ويُذِلّ.
...
أهدابي يتراكم عليها صدأ / العزلة
وزرنيخ المنفى.
أطلق سراحنا،
فَتَحت لساني مُصَنّف مليء بالإهانات
بِذُلّ يكفي لنسيان جميع الحريّات.
في الوحدة بكيتُ وارتعشت
وكأنّ الرّعدَ يهزّ مفاصلي،
وغنّى غبارُ وحدتي
كطائر على الأشجار
مع ذلك لا تعترفين بشرعيّتي أيتها الوحدة
أيّتها الوحدة
التي تستعير أشكال الحُرّيات.
الوَحدَة
أنْ تشتريَ باباً ونافذة
ومرحاضاً بمائة قفل،
أن تختبئ في أضيق الجحور،
ثم تزفرُ دخان حُبّك المحترق.
...
أيّها الشّتاء يا سيّدي
أيّ شيء تريد أن تنتزعه من فمي؟
أيّة بلاغات تُريد أنْ تُدَوّنها
عَن طحالبَ وأُشْنات نَمَت على جسدي؟
لا تُخرجْني من وَكري عنوةً أيها الشتاء.
لا تُخرجني من وَكري عَنوَةً.
فقبل أن أنحني لك
تكون قد طعنتني.
ولنْ يبقى في داخلي إلا ممرّ طويلٌ للنّفايات
يعبره العالم الخارجي.