أندري بريتون - سَمكة قابلة للذّوبان (الأقسام: 9، 16- 20، 22، 25)

 ترجمة : م. وساط

القسم التاسع

ليلةٌ شنيعة، ليلةُ أزهار، ليلةُ حشرجات، ليلةٌ مُدوِّخة، ليلةٌ صمّاء يَدُها طيّارة ورقيّة بشعة مشدودة من كلّ الجهات بخيوط، خيوط سوداء، خيوط مُخزية! يا ريفاً من عظام بيضاء وحمراء، ماذا فعلتَ بأشجارك المقزّزة، ببراءتك المتشجرة، بإخلاصك الذي كان كُييْساً تزدحم فيه اللآلئ، منقوشةً عليه أزهار وكتاباتٌ كيفما اتّفق، ودلالاتٌ في أقصى الحالات؟ وأنتَ، يا قاطع الطّريق، يا قاطع الطّريق، آه إنّك تقتلني، يا قاطع طريقٍ في ماء ينزعُ أوراق سكاكينه في عينيّ، ألا تعرف الشّفقة، يا ماءً مُشِعّاً، يا ماءَ معموديّةٍ أُكنّ له الحبّ ! ستطاردكم لعناتي طويلاً مثلما طفلة جميلة حدَّ أنّها تُخيف، طفلة تُلوِّح في اتّجاهكم بمكنستها التي من خشب الوزّال. في طرف كلّ فرع هنالك نجمة وهذا لا يكفي، كلّا، يا هندباءَ مريم العذراء. ما عُدت أُريد أن أراكمْ، أريد أنْ أُخرِّق بقطع رصاصٍ صغيرة طيوركم التي ما عادتْ حتّى أوراقاً، أريد أن أطردكمْ من بابي، يا قلوباً ذات بُزور، يا أمخاخاً منذورةً للحُبّ. كفى من التّماسيح هناك، كفى من أسنان التّماسيح على دروع المحاربين السّاموراي، وكفى أيضاً من دفقات الحِبر، في كلّ مكان جاحدون، جاحدون بأطرافِ أكمامٍ حمراء أرجوانيّة، جاحدون لهم عيون الكشمش الأسود، لهم شَعْرُ دجاجة! اِنتهى الأمر، لن أُخفي بعدُ شعوري بالخِزْي، لا شيءَ بعدُ سيمكنه أن يهدّئني، ولا أقلُّ من لا شيء. وإذا كانت عجلات القيادة في حجم بيوت، فكبف تريدون منّا أن نلعب، أن نتعهّد ديداننا، أن نضع أيدينا على شفاه القواقع التي تتكلّم بلا توقّف (هذه القواقع، من سيُسكتها، آخِرَ الأمر؟). لا أنفاسَ بعدُ، لا دم، لا روح ولكنْ أيادٍ لِعجن الهواء، لجعلِ خبز الهواء في لون الذّهب لِمرّة واحدة، أيادٍ لِتصْفقَ الممحاةَ الكبيرة للرّاياتِ النّائمة، أيادٍ شَمسيّة، وبإيجاز، أيادٍ جمّدتها البرودة!


القسم السّادس عشر

المطر وحده إلاهيّ الطّابع، لذا فإنّ العواصف حين تنفُض فوقنا فائقَ زيناتها، وترمي إلينا بأكياس نقودها، نشرع نحن في القيام بحركة تمرّد لا تُماثِلُ إِلّا دعكَ أوراقِ أشجارٍ في غابة. السّادة الكبار، ذَوو حواصل المطر، رأيتُهم يوماً يمرّون على خيولهم وأنا من استقبَلهم في النّزل الطّيب. هنالك المطر الأصفر، الذي تَسقط قطراته العَريضة مثلما شَعْرنا مباشَرةً في النّار فتُطْفِئُها، المطر الأسود الذي تنساب قطراته على زجاج نوافذنا بتحبّب مخيف، لكنْ لا ننسَ أنّ المطر وحده إلاهيُّ الطّابع!

في هذا اليوم الماطر، وهو يوم مثل أيّام أخرى كثيرة أكون خلالها الرّاعي الوحيد لقطيع نوافذي على حافة هاوية أُقيمَ فوقها جِسرٌ من الدّموع، أُدَقّق النّظر في يديّ اللتين هما قناعان على وجهين، ذئبان يرتاحان كثيراً لدنتيلّا أحاسيسي. أيّتها اليدان الحزينتان، إنّكما ربّما تُخْفِيان عنّي الجمال كلَّه، لا أُحِبّ مظهرَ المتآمرتين الذي لكما. بالتّأكيد سأجعلُ رأْسيكما يُقْطعان، ولستما من سأنتظر منهما إشارة للقيام بذلك؛ أترقّب المطر مثلما قنديل رُفِع ثلاث مرّات في الليل، أو كعمود من البلّور يصعد وينزل بين التّشَجّرات المباغتة لرغبتي. يداي هما تمثالان للعذراء في كوّةٍ قاعُها له زُرقة الشّغل: ما الذي تمسكان به؟ لا أريد أن أعرف ذلك، لا أريد أن أعرف سوى المطرِ الشبيه بقيثار كبير على السّاعة الثّانية بعد الظّهيرة في قاعة استقبالِ بيتِ السّوء، سوى المطرِ إلهيِّ الطّابع، المطرِ بُرْتقاليِّ اللون ذي الجوانب الخلفيّة التي هي أوراق سرخس، المطر بما هو بيوضٌ للضّريس شفّافةٌ كلّيّةً وأجزاءُ صغيرةٌ من أصوات يُرَجّعها الصّدى الألف.

ليس لعينيّ تعبير أقوى ممّا لقطرات المطر التي أُحِبّ أن أستقبلها في داخل يدي؛ في داخل فكري يسقط مطر يجعل نجوماً تهوي معه مثلما يجرف نهرٌ صافي المياه الذّهبَ الذي سيجعل عمياناً يقتتلون. بين المطر وبيني تمّ عقدُ ميثاقٍ باهر وفي ذكرى هذا الميثاق تُمطر السماءُ أحياناً والشّمس في أشدّ السّطوع. وخضرة الأعشاب هي أيْضاً مطر، يا مَرْجاتِ خَضيرٍ، يا مَرْجات خَضير. السّرداب الذي توجد بمدخله شاهدة قبر تحمل اسْمي هو السرداب الذي يسقط فيه المطر بشكل أفضل. والمطر هو ظِلٌّ تحت قُبّعة القشّ الهائلة التي لفتاةِ أحلامي الشّابّة، وشريط تلك القبّعة هو جدولُ مطر. ما أجمل المطر ويا للتّأثّر الذي تعرف كيفَ تُسبّبه لي أغنيتُه التي تعود فيها أسماءُ بنّائي السّقوف الشّهيرين! فما الذي أمكنَ إنشاؤه من الألماس عدا أنهار؟ المطر يُضخّم هذه الأنهار، المطر الأبيض الذي ترتدي فيه النّساء ألبستهنّ بمناسبة زفافهنّ، والذي له رائحة زهرة شجرة التّفّاح. لا أفتح بابي إلّا للمطر ومع ذلك يُقرَع جرسُ بيتي في كلّ لحظة ويكاد يُغْمى عليّ حين يتمّ الإلحاح، لكنّي أعتمد على غيرة المطر لتُخلّصني في نهاية المطاف، وحين أنصبُ شِباكي لطيور النّوم، يكون ما آمله أوّلاً هو أن أضع اليد على جنّات المطر الكامل الباهرة، على الطّائر-المطر الذي هو موجود كَما الطّائر- القيثارة1. فلا تسألوني إنْ كنتُ عمّا قريبٍ سأَنفذ إلى ضمير الحبّ مثلما يُشير البعض إلى ذلك، وأكرّر لكم أنّكم إنْ رأيتموني أتوجّه نحو حِصنٍ من زجاج حيثُ تتهيّأ لاستقبالي مكاييلُ مطليّةٌ بالنّيكل، فذلك لأباغت فيها الدّيمة2 في الغابة النّائمة، فلا بدّ لها من أن تُصبح عشيقتي.


القسم العشرون

ارتأينا ذاتَ يوم أن نجمع في كأس من تراب أبيض زغب الفواكه؛ هذه الطّبقة البخاريّة، دهنّا بها مرايا عِدّة وعُدنا بعد ذلك بزمن طويل : كانت المرايا قد اختفتْ. كانت المرايا قد وقفتْ، واحدةً تلو الأخرى، وخرجتْ وهي ترتعد. بعدها بوقت أطول بكثير، باحَ أحدُهُم بأنّه، إذْ كان عائداً من عمله، التقى بواحدةٍ من تلك المرايا، وكانت قد اقتربتْ منه رويداً رويداً، واصطحبها معه إلى بيته. كان شابّاً يتمرّن على مهنة ما وكان جميلاً إلى حدّ بعيد وهو في بدلة الشُّغل التي كانت تجعله يُشبه حوضاً مليئاً ماءً غُسِل فيه جُرح. رأسُ هذا الماء ابتسم مثلما يبتسم ألف طائر على شجرة للجذور المغمورة بالمياه. بِيُسر أصعدَ المرآة إلى بيته وهو يتذكّر فحسب أنّ بابين اصطفقا إذْ مرّ بهما، بابين كان لكلّ منهما يافطة من زجاج قليلة العُرض تحيط بمقبضه. كان يُبقي يديه متباعدتين لِينقل حِملَه، وقد اتّخذ احتياطات شَتّى كي يضعه في زاويةٍ بغرفة وحيدة بالطّابق السّابع كانت مأواه، ثمّ دلف إلى سريره. ولم تغمض له عين طول الليل؛ وكانت المرآة تعكس نفسها على عمق لا يُقاس ولمسافة لا تُصَدَّق. ولم يكن للمدن إلّا لحظة وجيزة تَظهر الواحدة منهنّ خلالها بين منظرين لعمق المرآة : مُدنُ حُمّى كانت تذرعها في كلّ اتّجاه نسوة وحيدات، مدُن هجران، مدن عبقريّة أيضاً، كانت تعلو بناياتِها تماثيلُ متحرّكة حاملاتُها مصمّمة بحيث تشبه بني آدم، مدنُ عواصف فقيرة، وهذه التي هي الأجمل والأسرع عبوراً من الأخريات وكلّ قصورها ومصانعها كانتْ على شكل أزهار؛ البنفسجة كانت موضعَ رَبْط السّفن. بالجهات الخلفية من المدن لم يكن هنالك كَقُرىً سوى سماوات، سماوات ميكانيكيّة، سماوات كيماويّة، سماوات رياضياتية، حيثُ كانت تتحرّك أشكال دائرة الفلك، كلٌّ شكل في نطاقه لكنّ برج الجوزاء كان يعود مرّاتٍ أكثر من غَيْره. نهض الشّابّ متعجّلاً في الواحدة، وهو يحسب أنّ المرآة تنحني إلى الأمام وأنّها على وشك السّقوط. وقد أعادها إلى وضع عموديّ بصعوبة كبيرة، وبغتةً شَعر بالقلق، واعتبر أنّ رجوعه إلى السرير قد تكون له عاقبة وخيمة، فبقي جالساّ على كرسيّ أعرج على خطوة من المرآة فحسب، وقُبالتَها تماماً. واعتقد لحظتها أنّه يتنبّه لأصوات تنفّسِ كائن غريب في الغرفة لكنْ لم يكن هنالك بتاتاً أَمر من هذا القبيل. كان الآن يرى شابّاً تحت باب كبير، وكان ذلك الشاب شبه عارٍ؛ ولم يكن خلفَه سوى مشهد أسود يمكن أن يكون مُشَكّلاً من ورق محروق. وحدها أشكالُ الأشياء كانت قد تبقّت وكان ممكناً معرفة الموادّ التي اندمجت فيها تلك الأشياء. لا شيء أكثر مأساويّةً من هذا، في الحقيقة. بعضٌ من هذه الأشياء كانتْ في ملكيّته: مجوهرات، هدايا تلقّاها في نطاق علاقات حُبّ، أشياء تبقّت من أيّام الطّفولة، وحتى قارورة العطر تلك التي لم يكن ممكناً العثور على سِدادتها. أشياء أخرى كانت مجهولة بالنّسبة إليه، ولم يستطع تبيّن طريقة لاستعمالها. كان الشّاب الذي يتعلّمُ مهنةً ما يزال يتفرّس أبعد فأبعد في الرّماد. وكان يشعر برضىً آثِم إذ رآى ذلك الشّابّ الباسِم يدنو من يديه، وكان وجه هذا الأخير يشبه كرةً يحلّق بداخلها طائران طنّانان. أمسكه من وسطه الذي هو وسط المرآة، أتدرون، وإذ فرّ الطّائران، تصاعدت الموسيقى حواليهما. فما الذي حدث في تلك الغرفة؟ الحاصل انّه منذ ذلك اليوم لم يتمّ العثور مجدّداً على المرآة ولا يحدثُ أبداً أن أُدنيَ فمي من واحدة من شظاياها الممكنة دونما انفعال، حتّى لو نتج عن ذلك أن لا أعود أرى خواتم الزّغب هاته، أي البجعات التي توشك أن تشرع في الغناء.


القسم الثاني والعشرون

هذه المرأة، تعرّفتُ بها في بستانِ عنبٍ مترامي الأطراف، أيّاماً قبل بدء القِطاف وتبعتُها ذات مساء حَول جدران دَيْر. كانتْ في حِداد عظيم وشعرتُ بالعجز عن مقاومة عُشّ الغربان الذي كان قد شكّله لي وَميضُ وجهها، قبل لحظات، إذ كنتُ خلفها أسعى إلى الارتقاء عبر ثياب الأوراق الحمراء التي تتهزهز فيها رعشاتٌ ليليّة. فكَّرْت: من أين جاءتْ وما الذي كانَ يُذكّرني به بستان أشجار العنب القائم وسط مدينة، في موقع المسرح. لم تكن قد التفتتْ مرّةً أخرى نحوي، ولولا التماعة رَبلة ساقها المفاجئة، والتي كانتْ من حين لآخر تبيّن لي الطّريق، لكنتُ يئستُ مُطلقاً من اللحاق بها. وفعلاً كنتُ أتهيّأُ لألحق بها حين استدارت كلّيةً وفتحتْ إلى حدّ ما معطفها مُظهرةً لي عريها الذي يسلبُ اللبَّ أكثرَ من الطّيور. كانت قد توقّفتْ، وكانت بإشارةٍ من يدها تُطالبني بالابتعاد، كما لو أنّ الأمر كان يتعلّق بالنّسبة إليّ بالوصول إلى قمم مجهولة، ببلوغ ثلوجٍ شديدة الارتفاع. لمْ أتمكّنْ على أيّة حال من الاستفادة من فتنة تلك اللحظة ولم أستطع إلّا أن ألْفظَ بوضوح الكلمات التي تسمعها العجائب حين يحاول المرء القضاء على نفسه أو حين يقضي بأنّ الأوان قد آن لئلّا ينتظر بعْدُ نفسَه. هذه المرأة التي كانت تُشبه الطّائر الذي يُسَمّونه الوحيد3 حدّ إمكان عدم التّمييز بينهما، قامتْ بِحركةٍ في الهواء متّبعةً خطّاً مُنحنياً بَهِيّاً، وكان خِمارُها يتجرجر على الأرض فيما كانتْ ترتفع.

مُدركاً أنّ الأناة ستكون مُضِرّة بي إلى حدّ بعيد، عدَلتُ عنها في الوقت الملائم وأمسكتُ الخمار من زاوية كنتُ قد وضعتُ عليها قدمي ولقد تمكنتُ من المعطف كلّه، الشّبيهِ بنظرة القاقُم حين يشعر أنّه قدْ صِيد. كان ذلك الخمار خفيفاً إلى أقصى حدّ وكان لقماشه خاصّيةٌ مميّزة، فرغم أنّه كان شفّافاً ولا بطانة له قَطْعاً، فإنّ نخاريبه الصّغبرة الخارجيّة كانت سُوداً، فيما بقيت مثيلاتُها التي كانت متّجهة نحو اللحم في لون هذا الأخير. رفعتُ باطن القماش الذي كان دافئاً ومُعَطّراً إلى شفتيّ، وكما لو أنّي كنتُ أتوقّع من هذا الرّداء لذائذَ تدوم طوبلاً، فقد أخذتُه إلى بيتي قصْدَ الاستمتاع بخاصّياته المُثيرة. كانت ضَحكةُ المرأة الأشدّ إثارةً للرّغبة تُغَنّي في داخليأكان ذلك من الخمار، أكان في ذاكرتي؟ على أيّ حال، فإنّها ما إنْ تركتْ غِلافَها حتّى اختفتْ وقد قرّرتُ ألّا أبدي بعدُ اهتماماً مخيباً للأمل بمعجزة بستان العنب وأن أنتميَ بكلّيتي إلى المعطف الموجود فعلاً والرّائع.

كنتُ قد وضعتُ على كتفيّ بعجلة ذلك الظّلَّ غيرَ الممكنِ لمسُه، والذي كانت الأحاسيس الأكثر عذوبةُ وحدها تمنحه شُبهة حياة. ملاذّ! كان الأمر كما لو أنّ امرأةً رمتني بنظرة حافلةٍ بكلّ الوعود وكما لو أنّي بقيتُ سَجينَ تلك النّظرة، كما لو أنّ ضغطةَ يدٍ أخفتْ كلّ التّواطؤات الغريبة لنباتات الغابات الّتي تتعجّلُ أوراقُها الاصفرار. وضعتُ الخمار على سريري فعَلتْ منه موسيقى أجمل ألف مرّة من موسيقى الحُبّ. كنتُ أشهد حفلا موسيقيّاً تُقَدّمه آلات متماثلة في أشكالها مع الكثيرات غيرها مع أنّ أوتارها قد تكون سُوداً، كما لو أنّها فُتلتْ من زجاج سريع الظّهور سريع الاختفاء. كان الخِمار يتحرّك قليلاً وتصبح له تموّجات مماثلة للتي لنهر في الليل، لكنْ لنهر نحزر أنّه صافي المياه بشكلِ فظيع من دون أن نراه. كانت له انثناءة على حافة المجرى تفتح هَويساتِ قنوات حليبٍ أو أزهار مباغتةً، فكنتُ في الوقت نفسه أمام مروحةٍ من جذور وأمام شلّال. وكانت جدران الحجرة تتغطّى بدموع تتبخّر حين تنفصل عن الجدران قبل أن تلمس الأرضيّة وكان ما يشدّها إلى تلك الجدران هو قوسُ قزحٍ شديد الصِّغَر حَدّ أنّه كان ممكناً الاستيلاء عليه بسهولة. حين كنت ألمس الخمار كان يتنهّد بوضوح وكلّما رميتُ به مجدّداً على السّرير، لحظتُ أنّه كان ينزِع إلى أنْ يُوَجّه صوبي جانبه الفاتح الذي كان مع ذلك مصنوعاً مِنْ كلّ النّجوم الممكنة. مارستُ معها الحبّ مرّاتٍ عِدّة وحينما اسْتيقظْت، بعد ساعةٍ لم تكتمل من النّوم أثناء السَّحَر، لم يكن ممكناً لي أن أضع يدي سوى على الظّلّ المتأخّر لمصباح ذي أباجورة خضراء كنتُ قد نسيتُ أن أُطفِئه.

وإذ نَفِد الزّيتُ لحظتَها، تسلّيتُ بالتّسمّع للانتفاضات الأخيرة للشّعلة، التي كانت تتباعد أكثر فأكثر، حتّى الانطفاء التّامّ الذي رافقه صوتٌ لن أنساه أبداً، صوتٌ كان ضِحكةَ الخِمار حين غادرني، مثلما غادرتني تلك التي كان الخمار ظِلَّها.


القسم الخامس والعشرون

هُوَ من؟ إلى أين يمضي؟ ماذا أصبح؟ ماذا أصبح الصّمتُ من حوله، والجوربان الطّويلان هذان، اللذان كانَا أفكارَه الأكثرَ عِفّةً، الجوربان الحَريريّان؟ ما الذي فعله ببقع جِلده المديدة، بعينيه اللتين هما من نفط مجنون، بإشاعاتِه كملتقى طُرُق بشريّ، ما الذي حدث بين مثلّثاته ودوائره؟ كانت الدّوائر تُبذِّر الضّوضاء التي تصل إلى أذنيه، والمثلّثات كانتْ هي أصناف الرُّكُب4 التي يُمتحَن للحصول عليها من أجل أن يذهبَ إلى حيثُ لا يذهبُ الحكماء، حين يُقال إنّه وقت النَّوم، حين يأتي رسولٌ ذو ظلٍّ أبيض ويقول إنّه وقت النّوم. أيّة ريح تدفعُه، هو الذي تُسلِّط عليه الضّوءَ شمعةُ لسانه عبر سلالم المناسبة؟ ورؤوسُ الشّمعدانات التي لعينيه، من أيّ طراز تبدو لكم في معرض خردة حديد العالَم؟ ومظاهر مُراعاته لكم، ما الذي فعلتُم بها، حين كان يتمنّى لكمْ قَبواً طيّباً وكانت الشّمس تَقًدّ مداخن الآجُرّ الورديّ، التي كان دخَانها من موسيقَى لحمه؟ وقَبْسُه الكهرباء منكم، ناحيةَ قنال "أورك"، أليس خليقاً بإبعاد عربة المُثلّجات والنُّوغا، الصّغيرةِ، التي كانت متوقّفةً تحت قنطرةٍ يعبرها المترو؟ وهو، ألمْ يرفض التّفاهم؟ ألم يمضِ في الطّريق التي تختفي في كهف الفِكْرة، ألمْ يكنْ جُزْءاً من بقبقةِ قنّينة الموت؟ هذا الرّجل ذو المآخذ التي لا تنتهي والبردِ القارس جدّاً، ما الذي كان يريدنا أن نفعل بعشيقته، حين كان يتخلّى عنها لِمحجن الصّيف؟ خلال هذه الأَمْسية التي هي مِنْ أحجار القمر والتي كان يَرجّ خلالها كأساً نصف فارغةٍ على طاولةٍ من ريح، ما الذي كان يُصيخ إليه على شَفرة الهواء، مثلما الهنديّ؟ لستُ أقوى منه، ليس لي أزرارٌ بسترتي، لا أعرفُ النّظام، لنْ أكون السَّباق إلى دخول المدينة ذات الأمواج الخَشبِيّة. لكن، فليُمنَح لي دمُ سنجاب أبيض إذا كذبتُ ولتجتمع الغيوم في كفّي حين أَقْشر تفّاحةً: إنّ قطع القماش البيضاء هاته تُشَكِّلُ قنديلاً، وهذه الكلمات التي تجفّ في المَرج تُشكّل قنديلاً لن أتركه يموت بخطأ زجاج يديّ المرفوعتين نحو السّماء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ 

1- هو طير القيثارة، له بذنَبه ريشتان معقوفتان كالقيثارة.

2- الدّيمة: هنا، بمعنى "المطر"، واعتماد هذه الكلمة المؤنّثة يفرضه السّياق.

3- الطّائر الوحيد: طائر إفريقي طويل الذّنب، ذو ريش أبيض وأَسْود، من الجواثم.

4- الرُّكُب: تعني، هنا، درجاتٍ يُختبَر للحصول عليها ممارسو الفروسية في الأندية بفرنسا، وهي: الرّكاب الذّهبيّ، الرّكاب الفضّيّ، الرّكاب البُرونزيّ.