الجمعة 11 أبريل 1986
بقي فارس مُغمضاً عينيه للحظاتِ بعد انقضاء نومه، متمنّياً لو أنّ الحلم استمرّ ولم تتوقّف وقائعه بشكل فُجائي. كانت تلك الوقائع تجري بين أطلال مدينة ما، ثُمّ في حانة، وأخيراً بمغارة على شاطئ... بدأ يفتح عينيه رُويداً، وقال في نفسه: «إنّه لَحلم مثير!». استرجع مشاهده الأخيرة: كان يشرب بيرة في حانة مألوفة لديه، قبل أن يحمل كيساً جلديّاً متوسط الحجم ويتجه نحو الشاطئ، حيث سيترك ثيابه في ذلك الكيس، بداخل مغارة، ويمضي للسباحة. لكنّه حين عاد وبعد أن لبس ثيابه، لم يعثر للحذاء على أثر. استكشف جوانب المغارة، وتحت أحد جدرانها، بدتْ له جمجمة تترنّح وتضحك. كأنها تسخر من حاله. ثمّ دخل إلى المغارة نادل الحانة التي كان فيها فارس، ووضع أمامه صينية عليها فردتا حذاء جديدتان من شكلين ولونين مختلفين، وكأس نبيذ. لحظتها فكّر فارس: «يا للحذاء الرّائع!»، ثمّ أفرغ في إحدى فردتيه كأسَ النّبيذ، وقال للنادل: النبيذ ذو أثر حسن على الجلد، وبعدها... استيقظ! ودون تفكير، تمطّى ثمّ انحنى وأجال عينيه أسفل السرير... كأنه سيرى تينك الفردتين، مختلفتي اللون، الطافحة إحداهما بالشّراب، جاهزتين لتلجهما قدماه!
نهض فارس من سريرهِ، لا بالمَرِح ولا بالقلِق. كان يلبس شورتاً أحمر خفيفاً وفانلة بيضاء. وبدت له الصّالة وكأنّها صغُرتْ. لكنْ كلّا. لقد كانت فسيحة، تنبسط على قسم كبير من أرضيّتها زربية ذات أشكال هندسيّة زرقاء وحمراء وسوداء، ولم تكن هنالك غرف غيرها في هذا المسكن. فقبالة فارس، إلى اليسار، هنالك المكتبة، وقربها طاولة مستطيلة بلون الأبنوس، مِن حولها كرسيّان ذوا أذرع، أزرقان، وأريكة زرقاء أيضاً. فيما بعد المكتبة، هنالك العمود الأبنوسي الطّويل، ذو الأذرع المقوّسة التي هي مشاجب، عُلّقتْ بها بضعة أثواب. لصق الجدار المواجه لفارس، التلفاز على طاولته الزّجاجيّة. أمّا لِصق الجدار الّذي إلى يمينه، فهنالك خزانة للملابس، متوسّطة الطول، فوقها لوحة لعبد العزيز الكابران، ابن لالّة البتول، صاحبة هذا البيت. وفي أقصى هذا الجدار، ينفتح رواقٌ جانبيّ يؤدّي إلى باب المطبخ، ثمّ إلى باب الحمّام.
لم تكن السّاعة قد جاوزت الثامنة إلّا قليلاً. في طريقه إلى الحمّام، استأثرتْ بنظرته، للحظات، أشياء موضوعة على الأريكة الطويلة: جوربان سوداوان طويلان بهما مربّعات شفيفة، صحيفة مغربية، رواية لسْكوت فتزجرالد. الجوربان الطويلان الأسودان الشّفافان هما لِزهور طبعاً. لقد تركتْهما هنا، خلال زيارتها الأخيرة أو ما قبل الأخيرة، لا أتذكّر (قال فارس في نفسه). قربهما، ما تبقّى من سجائر قليلة في علبة سيتركها فارس في مكانها، فلديه أخرى في جيب جاكتته الزيتونية اللون. أمّا الاستدعاء، فيُوجَد في جيب الجاكتة العلويّ. العلويّ الأيمن، تحديداً!
الاستدعاء! ردّد فارس في قرارة نفسه. وأتبع ذلك بِ«أوووفْ»، طويلة، ناجمة عن تعب غامض...
*
عن "وديعة خُفاف"، اقرأ أيضاً :